د.عبدالله بن سعد أبا حسين
يفاجئني هاتفي المحمول بعرض فيديوهات سفري مع عائلتي قبل سنوات، أو صوري مع أشخاص جمعتني بهم مناسبة، ويجعل العرض في قالب يسميه: (ذكرى جديدة)، فتقع مني موقعاً، وكلما كانت صور الذكرى عفواً؛ صارت أوقع، وكلما قوي الوقع؛ عظم الباعث على إرسالها إلى حبيب جمعتني فينات بهجة، وآونة أنس، فيرد بكلمات ود، وعبارات حنين لعهد.
وكنت -قبل الهواتف المحمولة- أجمع في مخيلتي صوراً ومراء لأشخاص جمعتني بهم أوقات من أجمل الأوقات، أستدعيها، فتهجس في خلدي هجساً، وتلوح كأشباح شخوص، وأكد الذهن لأتبين الملامح، وأعززه بالنظر إلى ما وقعت عليه عيني صحبتهم، أتقفى بذلك خيوط (الذكريات)، وربما أخذني التقفي إلى سوق بيع القديم من كل شيء، أسمع همهمة أهل السوق، وأستغرق في سماعها، وأرمي ببصري إلى مواضع افترشها الباعة، وعرضوا ما يتصل بأيام طفولتي، وسنين صباي، فأمعن النظر، وأطيل الفكرة، وأهيج التذكر، ثم أبتاع متصلاً بذكرى؛ كمتبرض ماء، كلما اجتمع منه شيء؛ غرفه، وربما ابتعت شيئاً لا لشيء إلا لترسيخ صورة في الذهن، تلوح مع إمعان النظر وطول الفكرة في ذلك الشيء، وعندي صندوق حديد قديم، كنا نسميه (سحارة)، أجمع فيه غرافي، وأفتحه بين حين وحين، أنظر إلى دلائل أخباري، وشواهد حكاياتي، ثم أجلس بين يديه، وأنثر ما فيه، وألعب مع (أنا الطفل).
بعض خيوط (الذكريات) مواضع ثابتة، لا بد فيها من وقوف على طلل، وبعض الأطلال تدهمني على حين غفلة، وتشخص أمام ناظري فجأةً، تحاكي هاتفي المحمول في ذكراه الجديدة، ولقد زرت قبل أيام قليلة مريضاً يسكن في حي البديعة، غرب مدينة الرياض، وأنا أسكن شمال الرياض، فركبت سيارتي، وأخذني الطريق إلى شارع (العصارات)، وحاذيت بعض أسوار بناياته القديمة، ثم صعدت الجسر المحاذي لمستشفى الشميسي، وسلكت الطريق المؤدية إلى جامع الأميرة سارة، ومررت بمنزل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، ومسجد مجاور لبيته، وبدا في مخيلتي شخصي (أنا) قبل أربع وثلاثين سنة، أقبل على ذاك المسجد، أصلي فيه العشاء والعصر، لسماع تعليق سماحة الشيخ المختصر على أحاديث الأحكام في كتاب (بلوغ المرام)، ثم أتبع الشيخ وهو يخرج من المسجد، أسمع أسئلة السؤال، وأجوبته، إلى أن يدخل بيته، وكان ينام بعد العصر، لا يجد وقتاً لقيلولته إلا ذلك الوقت، وبدا في مخيلتي - أيضاً - شخوص أقران زاحموني في الدنو من الشيخ مشياً من المسجد إلى بيته، وزاحمتهم، رضي الله عنهم، منهم: د. راجح الزيد.
كان لسماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز دروس كثيرة، أشهرها: درس فجر الخميس، ودرس مغرب الأحد، في عدة كتب، وطريقة الدرس أن القارئ يقرأ، والشيخ يعلق، ثم يقول: (بركة)، ويأمر القارئ الثاني، فيسمي، ويقرأ، وهكذا، وكانت الدروس في جامع الأميرة سارة، وجامع ابن ثنيان، والأصل أن دروس الفجر تقام في جامع الإمام تركي بن عبدالله، إلا أنه شرع في إعادة بنائه سنة 1411هـ تقريباً، وتم سنة 1413هـ، فانتقلت الدروس في فترة إعادة الإعمار إلى جامع سارة، ثم إن جامع الأميرة سارة جرى عليه إصلاحات في تلك الفترة، فانتقلت دروس الشيخ إلى جامع الثنيان، الواقع بعد ظهرة البديعة، ومصطلح (ظهرة) يقع على عدة مواضع في مدينة الرياض، يميز أحدها بالإضافة، ويعنى بالظهرة المضافة إلى البديعة: تضاريسها، فإنها واقعة على حزم، والحزم جبل متطامن.
لقد ثور الطلل دفينة الأيام لما باغتني وشخص أمامي على حين غفلة، وساقني التقفي بعد إلى الجامعين، وما إن ولجت جامع سارة؛ حتى دهم مخيلتي شخص الشيخ ابن مقيرن، وهو يكبر، ويتلو أم الكتاب، وأنا أحث الخطا، وأحاذي الصف، وأرفع يدي، وأقول: (الله أكبر)، وأرمي ببصري إلى موضع سجودي، وتلتذ أذني بحدره بالقرآن حدر النجديين، وكان إذا تلا؛ تواردت معاني القرآن على سمعي، واختلجت فؤادي، وقوي فيه التدبر والتفكر.
تذكرت بالشيخ ابن مقيرن؛ الشيخ فهد الحمين، يترنم بقراءة (إغاثة اللهفان) لابن القيم، والشجا يبعث الشجا، وتذكرت بأصواتهما النجدية الندية؛ الشيخ عبدالعزيز القاسم، بين يديه كتاب (زاد المعاد) لابن القيم، يقرأ حادثةً جرت على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وتوبة الثلاثة الذين خلفوا رضي الله عنهم، ورؤوس الطلبة وسماحة الشيخ مطرقة، والقاسم يهزج بصوت رقيق حزين فيه بحح، يغالب عبرته، وابن باز يسبح بصوت خفي ممزوج بآهة توجع، وآهة تعجب من فرج الله بعد الشدة.
وبذكرى الشيخين: الحمين والقاسم؛ بدت في المخيلة شخوص تلاميذ أخر، وشخوص من جاورهم في ذلك المجلس: عبدالعزيز الراجحي، وعبد العزيز المشعل، وسلطان الخميس، وعمر العيد.