أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
أنت الآن في (نيويورك) تمخرُ شارعًا مزدحمًا، وإذا لوحةٌ مكتوبٌ عليها (wasat albalad)! فتسأل سائقَ الأجرة: عجيب! لماذا تركتم (dawntawn)؟ ولم يكد يفغرُ فمَه ليجيبَك، حتى تفاجئك لوحة أخرى مكتوب فيها: (adderah) فتتبسم متعجّبًا: (الديرة)؟ سبحان الله! سميتم أحد الأمكنة في نيويورك بالديرة؟
فقال وهو يتثاءب بالإنجليزية (قال بالإنجليزية وتثاءب بالعربية): أوه، لم ترَ شيئًا بعد، نحن الآن نسمي المربع التجاري (almorabba)، ولا نقول مثلكم (square)، واقترضنا منكم (سوق) وتركنا (mall)، ونسينا كلمات كثيرة أنتم الآن تتمسكون بها وتُعلون شأنَها!
اخرُج معي الآن من هذه الخيالات المضحكة، ولنسأل أنفسَنا: هل يمكن أن يقع هذا؟ أليس شيئًا من الخيال المتمرّد على المنطق والتاريخ والجغرافيا؟ هل يمكن أن يقرّر عمدة لندن أن يسمي قلبها (وسطَ البلد)؟ أو أن يسمي عمدة باريس حيها القديم بالديرة؟ أو أن يرى مجلس برلين أن يسمي أحد الأحياء (التلالَ) أو (المروج) بلفظ عربي؟
ذلك المسطور في مطلع المقالة خيال، لكن ما القول في الحال المعكوسة؟ أي أن السائح الأمريكي أو البريطاني هو الذي قدم إلينا، وإذا به يرى (داون تاون)، و(ردسي)، و(سوهو)، و(سنترال بارْك)، و(فاستيفال)، و(كافيه)، وهلمّ استعجامًا! إن كان المتخيَّل في (نيويورك) مضحكًا، فالذي هنا أشدُّ إضحاكًا وأكثرُ جلبًا للسخريّة.
تلك (فتنة الاستعجام) التي تعصف الآن عصفًا شديدًا بمقوّمات الهُويّة، نراها في التعليم والإعلام والتجارة والدعاية، ونجدها في لافتات الطرق ولوحات المحال والمؤسسات والشركات، وازداد الطينُ بِلّةً حين استعجمتْ مشروعات كبرى، تحمل فيما يُظَنّ هوية البلد، وتترجم انتماءه، وتشير إلى جذوره! وذلك استعجامٌ تأباه هذه الجزيرة التي هي مهد العربية وقلبها، وإن ران عليها حينًا من الدهر.
إن (فتنة الاستعجام) ذات صور شتى، منها تهميش العربية في المؤتمرات والندوات، يجتمع عرب بعربٍ، ويتحدث عربي إلى عربي، فيختاران الإنجليزية أو الفرنسية لغةً للحوار!
ومنها أن بعض العرب أدار ظهره للغته، فصار لا يعلّم أبناءه إلا الإنجليزية أو الفرنسية، وبات لا يتكلم معهم إلا بها، حتى نشأ جيل ممسوخ، مهزوز الانتماء، فاتر الشعور بهويّته!
ومنها الرضا بتسمية الشركات والمحالّ التجارية بأسماء غير عربية، وبنظام لا يوافق نظام العربية، ولذلك كثرت التسمية بـ(كذا بلازا وكذا هاوس وكذا غاليري وكذا مول)!
ومنها أن تشخَص في مدن الخليج وفي قلب الجزيرة وأطرافها دعايات تختار الإنجليزية (4rent)، و(Coming soon)!
ومنها ما شاع في مطارات الدول ومنافذها، من تغليب للغة الأجنبية، واطراح للعربية، ففي مطار الرياض مثلًا متجر لبيع الكتب، لم يُكتب فيه كلمة عربية واحدة، بل حتى اسم المحل هو (Books)، وبهو الضيافة في بعض المطارات يسمى مثلًا (مرحبًا لاونج)، و(سمايلز)، ولهذا يجبُ أن يُشكر أولئك الذين بقُوا منحازين إلى هُويّتهم، باختيار التسمية العربية الأصيلة من شركات الطيران وشركات تأجير السيارات ونحوها. ولفظ (لاونج) هذا يمكن الاستعاضة عنه بعدة كلمات، منها (بهْو)، و(استراحة)، و(مَضافة)، ونحوها، ولن تعجَز لغتُنا ولن نعجز نحن لو شئنا، ولكننا متعاجزون مفتونون.
ومنها أن ترتفع على الأبراج والأسواق تسمياتٌ تُدابر العربيةَ، وتعقُّها على أشدّ ما يكون العقوق: (المروج تاور)، و(طويق تاور)، و(الرياض غاليري) و(الرياض بارْك)، و(أجا بارْك)، و(ردْ سي مول)! وما أكثرها! والأنكى أن تُسمّى أحياء وشوارع بأسماء غير عربية، وحسبنا أن نذكر أن جزءًا من حي النرجس في شمال الرياض سُمّي (مشارف هيلز)! وصار الجامع الذي فيه يسمّى (جامع مشارف هيلز)! لقد كثُرت علامات التعجّب حتى كادت المقالة كلُّها تصبح علاماتِ تعجّب واستفهام إنكاري!
وصارت بعض البلديات تكتب اسم البلدة في مدخلها بغير العربية، وكأن الشعب لا يعرف لغته، ولا يتكلم بها! أو كأنها رأت الاسم العربي مدعاةً للحرج ومجلبةً للتهَمة! وما أتعسَ المفارقة حين ترى قطيعَ إبلٍ وراعيه يحدوه بغناء عامي، على مدخل بلدة في الصحراء كُتب اسمُها بالإنجليزية مرفوعًا على قمة جبل!
ومن المؤلم أن يختار الأمن العام لفظ (police) ليُكتب على سياراته دون العربية، وهو ما نبّه إليه مشكورًا الأستاذ داود الشريان في منشور موجز ولكنه مبلِغٌ الرسالةَ واضحةً جليّة.
ومنها أن صار التاجر يترك الاسم العربي الذي عُرفت به تجارته، ويستبدل به اسمًا أجنبيًّا، مثل (وجوه) الذي غيّره أصحابه إلى (فيسز)، و(أفران الحطب) الذي غُيّر إلى (الحطب فودز)! يا للعجب من هذا التدهور! وعلى ذكر (فودز) أُورِدُ بعض المضحكات في (فتنة الاستعجام)، فقد زيّن المستعجمون لطائفة من الشعب أن التسمية بغير العربية، وأن ارتضاء التركيب غير العربي هو باب الرزق المفتوح، فهذه امرأة تصنع (الكليجا)، فتسمي النوع الصغير منها (ميني كليجا)! وأخرى تنتج أطعمةً فتسميها (أم صالح فودز)! وشابٌّ ينشئُ متجره فيسميه (تي رود)، وآخر يسمي منتجعه (دريم فارم)! وثالث يطلق على مشروعه في قلب النفود (ديم لايْت)! وأنا أعدّ منها ولا أعدّدها، فقد تجاوزت المعقول، وبلبلت العقول.
إن المسألة خطيرة جدًّا على الهُوِيّة، وعلى الانتماء، وإذا كان شعار اليوم الوطني الفائت (عزّنا بطبعنا)، فمن طبعنا الحفاظُ على الهُويّة اللغوية، ومن طبعنا الحميّة لما هو جزء منا، ومن طبعنا أن نظلّ أوفياء للغتنا.
وها هنا كلام مهمٌّ جدًّا للأستاذ محمود صبّاغ، نشره في موقع (إكس)، قال فيه معلّقًا على تسميات في جدّة: مشروع (مانهاتن) وحديقته الوسطى (سنترال بارك) شرق طريق الملك، وقبله (سوهو سكوير)، أسماءٌ فوقية لمشروعاتٍ عمرانيةٍ واعدة قادمة في جدة. غير أن تسمياتها لا تُخلِص لطبيعة المكان ولا لتاريخه، وتختزل أسباب التسمية.
فـ(مانهاتن) لفظة من لغة سكانها الأصليين، تُحيل إلى فعل التحطيب، كناية عن طبيعة أحراش وأشجار. أما (سوهو) فهو اختصار قائم على جغرافيا الموقع في نيويورك: (ساوث اوف هدسون ستريت)، ضمن ابتكارٍ نيويوركي خالص لنحت (علامات مكانية)، ومثله: (نوهو، دامبو، ترايبكا).
وأضاف: مشروع (مانهاتن) المعلن – وهو موقع حيوي على خريطة جدة – يقع في المنطقة التي عُرفت مجازًا بـ(الخلا الخالي)، أقصى شمال العمران، بطبيعة أراضٍ تتخللها: رياض وأثماد (والثمد: ماءٌ قليل لا مدد له). وهي تقع، على التقريب، ضمن مسار سيول وادي بريمان، أحد الأودية الكبرى شمال جدة، وتاريخيًا كانت السيولُ تصبُّ في السهل شرق مصنع الإسمنت (شارع حراء اليوم)، ثم تنصبّ في روضاتٍ في شماله، وتخلّف مياهًا شبهَ دائمة في تلك الأرض؛ فإذا غزُر السيل فاضت المياه من الروضة إلى البحر.
و(بريمان) -في رأي بعض المؤرخين- هو اسم الوادي التاريخي الشهير شمال جدة: وادي ضِجنان. ولاحقًا عُرفت الأرض في دارجة الأهالي وابتكارهم الحضري باسم نواحي (بعد مصنع الإسمنت). وفي المخططات الحضرية المبكّرة لجدة سُمّي الحيّان اللذان تقع عليهما أرض المشروع: (حي الروضة 2)، وشماله: (حي الثمد الشرقي)؛ وهي تسميات أخلصت للطبيعة الجغرافية، قبل أن تدمج لاحقًا باسم (حي النهضة).
ونحن إن أردنا منهج تسمية وفيًّا للمكان وتاريخه، سنخرج بخيارات أنسب.. أسماء تُجذّر الهوية المكانية، طبيعيًّا أو تاريخيًّا، من ذلك: مشروع «الروضة العُليا»، ومشروع «ضِجنان».
وإن بقي الإصرارُ على الاختصار المستورد، فمن المقترحات: مشروع «شمال شارع حراء»، ومشروع «شرق طريق الملك». وإذا أعملنا صيغ الدارجة والابتكار المحلّي، فيمكن أن نقول: مشروع «بعد شارع حراء»، ومشروع «كيلو 14»، (على اعتبار أن أبحر كانت تُعرف عند بعض الأهالي بـ»كيلو 36» شمالًا). أما الأنسب للحديقة الوسطى، فهو: (حدائق الثمَد)، و(حدائق الشيخ هلال)، إشارةً إلى الشيخ هلال العمري، قطب النقل العام منذ الخمسينيات، الذي امتلك مزارع وآبارًا في تلك الأنحاء زمن الخلا الخالي.
وقال الأستاذ محمود صبّاغ: ما ذكرتُه هو مقترحات مفتوحة لاتباع منهج تسمية أكثر أصالة، يقيم الوزن لطبيعة المكان وذاكرته الحضرية، بدل اقتباس أسماءٍ مستوردة لا تقول شيئًا عن جدة.
انتهى كلام الأستاذ محمود صباغ، مع بعض التصرف. وقد صدق وأجاد، وجملته الأخيرة توجزُ بعض المشكلة: (هذه التسميات غير العربية لا تقول شيئًا عنا)!
ولننظر إلى المسألة من ناحية سياحية، إن السائح لا يبحث في الغالب إلا عن المختلف وعن الطريف في البلد المَزُور، فإذا كان لا يجد إلا ثقافته وزيَّه ولغته، أو لا يلقى شيئًا تمتاز به البلاد التي زار، فإنه خارجٌ بانطباع فاترٍ عن البلد وأهله، ولن يذكرَ إلا ما يرى من الاختلاف في المظاهر التي لم يكن يعرفها من قبل، ومن أهمها اللغة وشخصية البلد الثقافية.
وإن لهذه الفتنة آثارًا سيئة على البلد وأهله، ولا سيما على الأجيال الجديدة التي سوف يعلَق بأذهانها أن لغتنا غير قابلة لأن تكون لغة تجارة واقتصاد وحضارة وهلمّ جرًّا، ومن تلك الآثار أن تفقد البلاد هُويَّتها اللغوية، وخصوصيتَها الثقافية، وفي أقل أحوال السوء أن تكون ذاتَ ثقافة مدخولة مجتلَبة، ولغةٍ ضعيفة لا ظهور لها.
وبعد، ففي هذه المقالة سعيٌ لاستنهاض الهمم لمحاربة هذه الفتنة الهوجاء، ورغبةٌ في أن تصل إلى ذوي الحلّ والعقد حتى يكبحوا بقوة النظام، وسطوة القانون ما لا تستطيع كبحَه المقالات والدراسات وصيحات الغيورين، و(إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن).
والقرار في يد أولي الأمر، وهو إذا جاء من الجهة العليا خضع له الناس، وصلحت به لغتهم، واستنهضوا حميّتَهم، وأيقظوا شعورَهم بالانتماء، والفألُ كبير، والظنُّ حسَن.
ويكفي أن استشراءَ هذه الظاهرة يغمز بعض أسس الانتماء ا لوطني، ويوهِنُ مشروع السَّعْودة، ومع كل ما قلتُ أجد ما جاء في (رؤية 2030) من فقرة تنصّ على الحفاظ على العربية، داعيًا إلى الاستبشار، وكذلك ما كان من إنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، وما نشأ من جهدٍ في خدمة العربية، كلُّ ذلك يزيدني ثقةً بأن مستقبل العربية واعدٌ بالتغيير إلى ما هو أفضلُ وأقَرُّ للأعين. والله المستعان.