د.نادية هناوي
السرد في الأساس فن زماني كالموسيقى يقوم على التناوب ما بين الفعل/ الحركة، والوصف المكاني/ السكون. وعادة ما يكون المكان عنصرا تابعا بالنسبة إلى الفعلية التي لها الأولوية في بناء الجملة السردية، مما هو معتاد في القصص والروايات الكلاسيكية.
وحين ظهرت رواية تيار الوعي اندمج الزمان بالمكان باستعمال تقانات المونتاج الزماني والمونتاج المكاني والوصف الخارجي الموضوعي للأشياء، فكانت حركية اللقطة الفيلمية تصور بانورامية المكان فوتوغرافيا أو تجسد فاعلية اللحظة الزمنية دراميا.
وما أن جاءت الرواية الجديدة حتى صار الوصف المكاني محورا، وغدت له مركزية، معها أصبحت الأشياء الجامدة فاعلا سرديا، وتجسدت الحقيقة في السطوح لا في الأعماق، وبدت الوصفية هي الصانعة للفعلية تصويريا وربما تجعلها آتية في ذيلها أو لاحقة بها، فيبدو السرد فنا مكانيا لغلبة الوصف وسيطرته على عناصر السرد الأخرى، وتأثيره في وظيفة كل واحد منها.
ومثلما في فن الرسم يتحدد المنظور من نقطة ما في الفضاء المكاني، كذلك يتحدد المنظور السردي من جملة وصفية، بها يأخذ كل عنصر من عناصر البناء الفني موضعه وتتحدد أبعاده، ومن الطبيعي بعد ذلك أن نجد الأشياء تسمع وترى وتلمس وتتذوق وتشم في حين يكون وجود الإنسان مجرد فائض وصفي. وهذا ما جعل السرد بَصَريا، وتحول الوصف من وظيفتي التزيين والتفسير إلى وظيفة جديدة هي التجسيد بالكلمات، ولا فرق إن كانت أداة السارد اللغة أو عين الكاميرا؛ لأنه في الحالين سيكون في موضع خارجي حتى كأنه غير موجود.
إنَّ هذا التعشيق بين فن السرد وفن الرسم هو ما يطلق عليه ( السرد البَصَري Visual Narrative ) ويعني مشهدا مرئيا يصل إلى المتلقي كقصة، أيا كانت واقعية أم خيالية، نخبوية أم شعبية. وقد يكون التعشيق ثنائيا أي أن تكون اللوحة الفنية مدمجة ضمنيا في السرد، وقد يكون رباعيا أي أن تجتمع اللوحة والصورة داخل الجملة السردية؛ فتغدو متجسدة بَصَريا وموحية ذهنيا، وقد تتعشق الرسوم والفوتوغرافيا بالدرامية والمشهدية، فتتولد اللقطة الفيلمية.
وأهم خطوة في كتابة السرد البَصَري هي التخطيط الافتراضي للفكرة في الذهن هندسيا ثم التجسيد الحركي لها في السرد عمليا. والهدف قد يكون فنيا خالصا من ناحية تطويع الموهبة لتكون في خدمة الرغبة، وقد يكون الهدف فكريا من ناحية التعبير عن إنسان هذا العصر( المنفي من كل مكان، والغريب في كل وطن ) كما يقول روجيه غارودي.
وسواء امتلك الإنسان هوية أو لا، فإنه في كل الأحوال مجرد صورة تحمل اسما أو رقما ضمن عالم يمتلئ بالأسماء والأرقام.
ويفيد السرد البَصَري من خصائص الفنون التشكيلية - بأنواعها رسما ونحتا وزخرفة وخطوطا وتصويرا فوتوغرافيا - في بناء العلاقات وتحديد الانتقالات داخل القصة وبحسب مواضع الضوء والظل، السكون الحركة صعودا ونزولا، نموا وأفولا، تواليا وتقاطعا، طولا وعرضا، امتدادا ودورانا، امتلاء وفراغا.
وعرف الإنسان السرد البَصَري منذ ذاك الزمان الذي فيه رسم لوحات أو نحت إيقونات، تحكي مجموعة أحداث متعاقبة تعود لقصة واحدة. ويعد شعب بلاد الرافدين أول من مارس السرد البَصَري بما رسمه من جداريات ومنحوتات ولوحات وأوان ومصوغات وآلات، سُردت على سطوحها أحداث المعارك الضارية وأساطير الآلهة وحكايات الملوك والأبطال. وتطور فن السرد البَصَري على يد الإغريق والرومان كما طوَّره العرب المسلمون لاسيما في عمل المنمنمات والزخارف لأغلفة الكتب. وكان صنيع الواسطي في ترسيم مقامات الحريري مبتكرا وجديدا بما وضعه من لوحات تخطيطية تسرد قصة كل مقامة من المقامات الخمسين.
وشهد السرد البَصَري في العصر الحديث اهتماما خاصا بعد اختراع الطابعة وانتشار الكتب، فظهر شكل سردي بصري يتمثل في اللوحة الوصفية Sketch. وتطورت أنواع السرد البَصَري في ستينيات القرن الماضي، فشملت الوصف التشكيلي وصور الحياة اليومية والقصص المصورة Comics والصورة الفوتوغرافية والصورة السينمائية.
ويعد الوصف التشكيلي أكثر أنواع السرد البَصَري استعمالا، وبه عُرفت روايات الآن روب غرييه الذي أحبَّ الوصف حبا عميقا وآمن بأن العصر هو عصر الأشياء والإنسان جزء منها. وهذه هي النزعة الشيئية التي من مبادئها أنّ العمل السردي هو الذي يعبِّر عن نفسه ويخلق توازنه الخاص بنفسه ويقف على قدميه من دون عون أحد – على حد وصف غرييه-، وأن على اللغة الأدبية أن تغيِّر اعتدادها بالكلمة إلى الاعتداد بالصفة البَصَرية الوصفية في قياس كل شيء بما في ذلك الشخصية، بغية وضع هذا الشيء في مكانه الصحيح.
وسار على نهج غرييه في كتابة السرد الشيئي باستعمال الوصف التشكيلي روائيون عرفوا بهذا النزوع مثل كلود سيمون وناتالي ساروت وريمون روسل وجوبوسكي وصموئيل بيكيت وغيرهم. ولم يكن الأديب العربي بمعزل عما حصل في الغرب من انعطاف فلسفي ما بعد حداثي باتجاه الشيئية، فتأثر بها ووجه أدبه على وفقها. فكانت الرؤية البَصَرية صحوة ابتكار سردي؛ وتنوعت بين التجسيد بالكلمات والتقاط الصور الفوتوغرافية بعين الكاميرا وبين توليف النصوص الأدبية وغير الأدبية بطريقة الكولاج collegeأو النسخ واللصق copy- paste.