صباح عبدالله
في لحظة من لحظات القراءة النادرة، تلك التي يشعر فيها المرء أن الكتاب لا يمر على سطح الوعي مروراً عابراً، بل يغوص في الأعماق ليلمس شيئاً يشبه العظم، يولد أثر باقٍ لا يمكن تجاهله، جاء كتاب «خدش عظم الحياة» كواحد من تلك التجارب القرائية التي تترك القارئ أمام مرآة مغايرة للحياة. الكتاب في جوهره ليس رواية ولا بحثاً تقليدياً، بل هو مجموعة من المقالات والتأملات الفكرية، جمعت نصوصاً من عوالم الأدب والفلسفة والفكر الغربي، وأُعيد تقديمها في قالب عربي يتيح للقراء أن يطلوا على عوالم إنسانية مشتركة. ومن هنا جاءت أهمية العنوان الذي يوحي بأن الحياة ليست مجرد سطح لين يمكن مداعبته بالكلمات، بل لها عظم لا يُخدش بسهولة، لكن النصوص هنا تحاول أن تجرِّب ذلك الخدش ولو لمرة، لتكشف لنا ما وراءه من قسوة ورهافة في آن واحد.
الكتاب من حيث البناء يبدو وكأنه رحلة فكرية عبر نصوص مختارة بعناية، لا يجمعها موضوع واحد محدد بقدر ما يجمعها الخيط الإنساني العميق الذي يربطها بالحياة في تجلياتها المختلفة. كل مقالة أو قراءة تقدم نافذة على سؤال جوهري: ما معنى أن نعيش؟ كيف يمكن للكلمة أن تمس جوهر الوجود؟ وما الذي يبقى من الإنسان عندما تتساقط الأقنعة اليومية التي يفرضها الواقع؟ القارئ يجد نفسه في مواجهة عبارات تحفر في داخله، بعضها يأتي مترجماً من نصوص غربية كبرى، وبعضها الآخر يأتي كقراءة عربية لهذه النصوص، وفي الحالتين يبقى الأثر واحداً: إحساس بأن الكتاب لا يُقرأ للمتعة السريعة، بل للتأمل الطويل.
المقالة التي تحمل عنوان «خدش عظم» على وجه الخصوص تمثِّل قلب الكتاب، فهي لا تكتفي بسرد فكرة أو تعليق عابر، بل تحاول أن تتعامل مع الحياة بوصفها تجربة مادية وروحية تتطلب جهداً لفهمها. الكلمات فيها قاسية أحياناً، شاعرية في أحيان أخرى، لكنها دائماً مشحونة بطاقة السؤال والبحث. يتلمس القارئ بين السطور محاولة لمصارحة الذات بما تهمله عادةً في زحمة الانشغال، ويشعر أن النص يعيد صياغة العلاقة بين اللغة والوجود، بحيث تصبح الكلمة نفسها بمثابة أداة حفر تكشف المستور، تماماً كما يفعل الخدش عندما يزيح القشرة ليظهر ما تحتها.
يُحسب للكتاب أنه لا يكتفي بعرض النصوص الغربية كقطع منفصلة، بل يقدمها ضمن سياق قرائي عربي يتيح للقارئ أن يتفاعل معها من موقعه الخاص. بمعنى أن النصوص لم تُترجم كأمانة لغوية فقط، بل أُعيدت صياغتها في بعض المواضع لتتجاوب مع الأسئلة التي تشغل القارئ العربي اليوم. هذا التلاقي بين الثقافات يضفي على الكتاب حيوية مضاعفة، إذ لا يشعر القارئ أنه يتعامل مع نص غريب عنه تماماً، بل مع صوت إنساني له امتداد في تجربته الخاصة. وهو ما يجعل «خدش عظم الحياة» أقرب إلى جسر أدبي وفلسفي يربط بين ضفتين، أكثر من كونه مجرد تجميع لمقالات.
أحد الجوانب التي تمنح الكتاب قيمته هو تعدد طبقاته القرائية. فمن يقرأه قراءة سريعة قد يلتقط عبارات لافتة تصلح كحكم أو شذرات للتأمل، ومن يتأنى في القراءة سيكتشف شبكة معقدة من الأفكار والمرجعيات التي تدفعه للبحث والاطلاع على النصوص الأصلية. وفي الحالتين، يبقى الأثر واضحاً، وهو أن الكتاب يحرِّض على التفكير ولا يكتفي بالتسلية. وحتى في لحظاته التي تبدو شاعرية، يظل فيه بعد نقدي يحاول أن يضع القارئ أمام مواجهة مع ذاته ومع العالم.
لا يمكن إنكار أن الكتاب يندرج ضمن سلسلة من الإصدارات العربية التي تحاول أن تُدخل النصوص الفكرية الغربية إلى دائرة التداول العربي، لكنه يتميز عن غيره بأسلوبه الأدبي في التقديم، حيث لا يقتصر على الترجمة أو النقل، بل يضفي لمسة تأملية تجعله نصاً جديداً قائماً بذاته. هذا الأسلوب يذكّر بكتابات ميشيل دو مونتين في مقالاته، حيث لم يكن الهدف تقديم حقائق ثابتة، بل مشاركة القارئ في رحلة التفكير ذاتها. وهكذا يصبح الكتاب مرآة مزدوجة: مرآة للنصوص الأصلية ومرآة للقارئ الذي يطل عليها من خلال لغته وتجربته.
اللغة التي كُتب بها الكتاب تمثِّل بحد ذاتها نقطة جذب، فهي لغة رشيقة، متوترة أحياناً، لكنها لا تفقد شاعريتها. هناك ميل واضح إلى استخدام الصور المجازية التي تجعل الفكرة أكثر قرباً إلى المتلقي. هذا الخيار الأسلوبي يتناسب مع طبيعة الكتاب الذي لا يسعى إلى تقريرية جافة، بل إلى لمس القارئ على المستوى الشعوري. فالمجاز هنا ليس زخرفة، بل ضرورة، لأنه الوسيلة الوحيدة أحياناً للتعبير عن مناطق معقدة في التجربة الإنسانية لا تستطيع اللغة المباشرة أن تلامسها.
من زاوية أخرى، يعكس الكتاب حاجة متزايدة لدى القارئ العربي إلى نصوص لا تنغلق على بيئتها الضيقة، بل تنفتح على التجربة الإنسانية في عمومها. فالحياة، كما يظهر من العنوان، ليست حكراً على ثقافة أو مجتمع بعينه، بل هي مادة مشتركة يمكن لأي إنسان أن يجد فيها صدى لأسئلته. ولعل هذا ما يفسر تفاعل القراء مع الكتاب في المنصات الإلكترونية، حيث ظهرت تعليقات تشيد بقدرته على تحريك أسئلة داخلية لا يثيرها كثير من الكتب. البعض وجد فيه عزاءً في مواجهة قسوة الواقع، والبعض الآخر اعتبره تحدياً لعاداته القرائية المعتادة.
لكن الكتاب ليس سهلاً بالمعنى التقليدي، فهو يتطلب استعداداً للتأمل والصبر على نصوص قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة أو غامضة. هذا التحدي جزء من جماله، إذ يمنح القارئ فرصة لتجربة مختلفة عن القراءة الاستهلاكية السريعة. في زمن يميل فيه الناس إلى النصوص القصيرة والملخصات، يقدم «خدش عظم الحياة» تجربة مضادة، تجربة تدعو إلى التمهل والتفكر، إلى إعادة الاعتبار للقراءة كفعل وجودي لا كوسيلة عابرة للترفيه.
لا يخلو الكتاب أيضاً من بعد تربوي ضمني، فهو يعرّف القارئ على أسماء وأفكار ربما لم يكن ليصل إليها بسهولة. وبينما يمرر هذه المعارف في سياق تأملي، فإنه يفتح الباب لمزيد من الاكتشافات. وكأن القارئ بعد الانتهاء من الكتاب لا يملك سوى أن يدوّن قائمة طويلة من الكتب والمفكرين الذين يرغب في العودة إليهم. وهذه واحدة من أهم علامات الكتاب الناجح، أن يتحول إلى عتبة لا إلى محطة نهائية، إلى دعوة للرحلة لا إلى غاية مغلقة.
ومع ذلك، لا يمكن القول إن الكتاب مثالي بلا ثغرات. فالبعض قد يرى أن الطابع المتجزأ للنصوص يترك القارئ مع شعور بالانقطاع أحياناً، وأن غياب خيط سردي واضح بين المقالات قد يجعل التجربة متقطعة. لكن ربما هذا هو المقصود، أن يكون الخدش غير مكتمل، أن يُترك الأثر مفتوحاً للتأويل، وأن يظل القارئ شريكاً في إكمال المعنى. فالحياة نفسها ليست نصاً محكماً، بل سلسلة من المقاطع والتجارب التي لا يجمعها سوى كونها تخصنا نحن الذين نحياها.
في النهاية، يمكن القول إن «خدش عظم الحياة» ليس مجرد كتاب يُقرأ ويُغلق، بل تجربة فكرية وشعورية تعيد تعريف العلاقة بين القارئ والنص. إنه كتاب يطلب من قارئه أن يتورط، أن يفتح داخله مساحات ربما لم يجرؤ على لمسها من قبل، وأن يواجه الحقيقة القاسية بأن الحياة لا تكتفي بالسطح بل تخبئ عظاماً لا تنكشف إلا بخدش. وهذه الدعوة إلى التورط في المعنى، إلى التفكير العميق في الذات والعالم، هي ما يمنح الكتاب قيمته الباقية.
حين يُغلق القارئ آخر صفحة، لن يجد أجوبة جاهزة على الأسئلة الكبرى، لكن سيجد نفسه وقد صار أكثر قرباً من تلك الأسئلة، وأكثر استعداداً لمرافقتها في رحلة الحياة. وهذا بحد ذاته إنجاز لا يستهان به. ففي عالم يغرق في الضجيج، يجيء كتاب كهذا ليمنح لحظة صمت وتأمل، لحظة نادرة يشعر فيها المرء أن الأدب والفكر لا يزالان قادرين على خدش العظم، لا ليؤلما فقط، بل ليذكرا بأننا أحياء، وبأن المعنى لا يولد إلا من مواجهة الصعوبة، لا من الانسياق وراء السهولة. وهكذا يصبح «خدش عظم الحياة» علامة فارقة في تجربة القراءة العربية المعاصرة، وهدية لكل من يبحث عن كتب لا تكتفي بأن تملأ الوقت، بل أن تملأ الروح بأسئلة لا تنتهي.