عبدالله العولقي
هناك تفسيرٌ نفسيٌّ للإبداع مردُّه أنّ الإبداعَ الفنيَّ عموماً هو معادلٌ نفسيٌّ لحالة القلق التي تعتري المُبدع، ولكننا لا نستطيعُ إطلاقاً تعميم هذه النظرية إلا على حالاتٍ معينةٍ قدْ يكون منها أميرُ الشعراءِ أحمد شوقي.
فهذا الشاعرُ مجبولٌ على القلقِ المُزْمن، وُلد وعيناه الصغيرتان تضطربانِ بشدةٍ ولا تكادُ تثبتُ في مكانِهما، ويُقال أنّ جدّته التي تعملُ في القصر الملكي قدْ ذهبتْ به إلى الخديوي إسماعيل حاكم مصر وكان شوقي في الثالثة من عمره، فلاحظ الخديوي عينيه وهما تنظران إلى السقف وتترجْرجان ولا تسْتقرّانِ على حال، فأخرج من جيبه قطعاً ذهبية وألقى بها على السجادة، فخطف بريقُها عينيّ الطفل فنظر إلى لمعان الذهب، فضحك الخديوي وقال لجدته: عالجيه بهذا الدواء، وسترين كيف يتماثل إلى الشفاء، فأجابت الجدّة بذكاءٍ وعلى الفور: يا سيّدي، هذا الدواء لا يُصرف إلا من صيدليّة سُمُوّك!.
وحول هذه الحكاية قال عنه خصومُه إنه منذ وُلد وهو يبحثُ عن بريق الذهب، بينما الحقيقة أنّ أشعاره وقصائده التي خلّدها في ديوانه أثمن من الذهب، وحول نشأته فقد التفّتْ حوله الأعراقُ البشرية المتنوعة من كلّ جانب، يقول عن ذلك: أنا عربىٌ تركىٌ يونانىٌ شركسي، فجدُّه كردى وأمه تركية ، وأم أبيه شركسية، وأمُّ أمه يونانية!!، كل هذه الأعراق امتزجت في روح شوقي فأنتجتْ لنا هذه العبقرية الإنسانية في الشعر العربي الحديث.
عاش شوقي أربعةً وستين عامأً (1868م-1932م) ، نصفُها في القرن التاسع عشر الميلادي ونصفُها في القرن العشرين، وقبل وفاته بعدةِ أشهرٍ تُوفي صديقُه حافظ إبراهيم، فتأثر شوقي وبكاه:
قد كُنتُ أُوثرُ أنْ تقولَ رثائي
يا مُنْصف الموتى من الأحياءِ
كانت الصحفُ المصرية تُقْرنُ اسمي الشاعرين الكبيرين معاً، فكان شوقي يتضايقُ من هذه الثنائيّة، كان يريدُ اسمه وحده في المجد ولا أحدٌ معه، وفي حفلِ إمارة الشعر عام 1927م الذي أُقيم تكريماً له، وقفَ حافظ إبراهيم أمام الحفلِ مُبايعاً شوقي بإمارة الشعر:
أميرُ القوافي قدْ أتيتُ مُبايعاً
وهذي وفودُ الشرقِ قدْ بايعتْ معي
وهنا وقفَ شوقي احتراماً واجلالاً لحافظ، وعانقه والدموع تتساقط على وجنتيه، لقدْ أحسّ شوقي في ذلك الحفلِ المهيبِ قدراً جليلاً من التكريم وردّ الاعتبار، خصوصاً بعد أنْ برزتْ مجموعةُ الديوان التي يقودها المفكر الشاب حينها عباس العقاد والذي هاجم شوقي بضراوة، كان العقادُ وجماعته قد تأثروا بالآداب الأوروبية، وحاولوا أنْ ينقلوا تلك التجربة إلى الأدب العربي، وكان شوقي تقليدياً صِرْفاً في منهجيّته الشعرية، لقدْ صبّ العقادُ هجومه اللاذع على شوقي وشعره بلا هوادةٍ أو رحمةٍ، وكان العقادُ وقتها شاباً مثقفاً ذكياً استطاع أنْ يهزّ مكانة شوقي في الأدب العربي، فتأثر شوقي كثيراً من هذه الحملةِ الشعواء، وظنّ أنّ منزلته الشعرية لمْ تعدْ كما كانت، ففكّر أنْ يُخلّد شعره بالفن والغناء، فتبنّى موهبةً أدبية ناشئة وهو الموسيقار محمد عبدالوهاب لغناءِ شعره، فكان شوقي بمثابة الأب الروحي لهذا المطرب الشاب.
يقول عبدُالوهاب في إحدى لقاءاته واصفاً شوقي: لقد كان شوقي قصيراً جداً لدرجة القزم، وكان كثيرُ القلقِ والحركةِ بصورةٍ جنونية، فلا يمكنُ أنْ يظلَّ جالساً على المقعد أكثر من ربع ساعة، كان قلقه النفسي يجعله دائبَ الحركة كثير التنقل!!، ويصفُ عبدالوهاب معاناة شوقي في نظم القصيدة أنه كان يطلبُ منه الخروج معه للمشي في شوارع القاهرة، لا يتكلم أثناءَ النزهة على الإطلاق!، بلْ يُتمْتمُ مع نفسه بأصواتٍ غير مفهومة، فكان يدخلُ المحلَّ التجاري ويتحرّك بداخله، فإذا سأله البائعُ عنْ خدمته، خرج على الفور دونَ أنْ يُكلّمه، ويستمرُّ في مشيه وفي همْهمته حتى يدخل محلاً آخر، وهكذا يظلُّ شوقي في عصفٍ ذهنيٍ وشرودٍ عقليٍّ وقلقٍ نفسيٍّ مُريعٍ حتى تستقرّ القصيدة في ذهنه، وهنا يذهبُ عنه سلوكه الجنوني وتهدأ نفسه قليلاً، ويبدأ في كتابة القصيدة!.
كان يكتبُ الأبيات على علبة السجائر، أو على أيّ ورقة يجدها تطيرُ أمامه في الهواء، أو على كرتونٍ مُلقىً على الأرض، فالمهمُّ عنده أنْ يدوّن نتاج قريحتُه من الفنّ الشعري، هكذا كانت طريقة شوقي في نظم الشعر، سلوكٌ جنونيٌّ مُرعبٌ، لقدْ كان يمشي لمسافاتٍ بعيدةٍ تائهاً في شوارع القاهرة حتى تستقرّ القصيدة في روحه، وهكذا هو دأبُ العباقرة والعظماء في سلوك المشي، يقول فيلسوف فرنسا جان جاك روسو: لا يمشي عقلي إلا إذا مشت قدميّ!!.
يقول ابنه حسين شوقي في كتابه أبي شوقي: إن والدتي كانت صبورةً جداً مع أبي، وعاشتْ حياتَها وهي تحْتملُ كّل جُنونياته وغرائب تصرفاته، لقدْ عاش أبي في بيته مثل الطفل، حتى غسْل يديه ووجهه كان يقومُ بهما خادم المنزل، ويقولُ عنه: لقد كان أبي دائمَ القلق، يخرجُ من المنزل وهو لا يدري أين سيذهب، فيسيرُ بلا قصدٍ، ولا يستقرُّ في مكانٍ واحد، قلقاً متململاً طوال الوقت، ولا يستمعُ إلى حديثٍ إلا ويملُّ منه سريعاً، فينتقلُ من مكانٍ إلى مكانٍ ومن منتدىً إلى آخر، والناس يظنون به الجنون!، بينما هو يطارد إبداعه، وقد تطارده القصيدة وتهربُ عنه، وهو يتودّدُ إليها ويتقرّبُ منها حتى ترقَّ له وتمنحه أجملَ المعاني!.
كان شوقي يحبُّ الحياةَ ويخافُ من الموت، يقول عبدالوهاب عنه: إنه لا يعبرُ الشارعَ إلا بعد خلوّهِ تماماً من السيارات رغم قلّتها في ذلك الزمان، فكان يخافُ من الموت لدرجةٍ رهيبة، ومن الحكاياتِ الطريفةِ التي تتعلّقُ بذلك أنه كان لا يرتدي ربطة العنق طوال حياته لاعتقاده أنها تُذكّرهُ بحبلِ المشنقة!!، وكان يرتدي الملابسَ الصوفية شتاءً وصيفاً لأنه يخافُ كثيراً من المرض، وكلما تُوفّي أحدٌ من أصدقائه كان يهرعُ إلى الانعزال، فينعزلُ بعيداً عن الناس لفترةٍ طويلةٍ حتى ينسى الخبر!!.
هكذا كانت روحُ شوقي قلقةً خائفةً إلى درجة الهوس، وحياتُه غريبة في أطوراها حتى في طقوس الطعام!، فكان لا يأكلُ إلا قليلاً في وجباته، ورغم ذلك كان حريصاً على وجود الأطباق الكثيرة والمتعددة على سفرة الغداء، إذنْ فنحنُ أمام حالةٍ نفسيةٍ غريبةٍ يعتريها القلقُ إلى درجةٍ كبيرة، فهل كان الهوسُ واضطرابُ القلق عند أمير الشعراء معادلاً نفسياً لابداعه الشعري وعبقريته الأدبية؟، ربّما يكونُ الأمرُ كذلك، فالدراساتُ النفسية تشيرُ إلى حالاتٍ كثيرةٍ من غرائب التصرفات المشابه والجنونيات المماثلة عند كثيرٍ من العباقرة والمبدعين!!، ولعلّ أستاذَه القديم أبا الطيب المتنبي أحدُ هؤلاء القلقين:
على قلقٍ كأن الريح تحتي
أُوجّهها يميناً أو شمالاً
فهلْ كان الإبداعُ الفنيُّ هو العلاجُ الروحيُّ لهذه الشخصيّات القلقة؟، هل كانت أرواحُهم المضطربةُ بالقلقِ تهدأُ وتجدُ الراحةَ النفسيّة إذا اكتملَ النصُّ الأدبيُّ تألقاً وتميزاً؟، ربّما يكون الأمر كذلك، فقدْ بلغَ القلقُ بشوقي أنه كان يخشى لقاءَ الجمهور، فلمْ يُلْقِ قصيدةً واحدةً أمام الملأ!، بل كان يستعينُ بآخرين ومنهم الشاعر أحمد رامي!!، ومن الجدير بالذكر أنّ شوقي كان ذكياً جداً ومثقفاً واسع الإطلاع والقراءة، ولديه القابلية النفسيّة والذهنية للتعليم والتطور الذاتي، فعندما أوفدُه الخديوي توفيق إلى فرنسا، أتقن اللغة الفرنسية بسرعةٍ شديدة، واختلط في باريس بكبار أدبائها ومبدعيها، لكنّه رغم ذلك ظلّ وفياً لمنهج القصيدة العربية القديمة، فتجده يُذكّرُنا بشعراء العصر العباسي من المتنبي والبُحتري وأبي تمام.
في عام 1915م نفى الإنجليزُ شوقي إلى اسبانيا، فغادر شوقي وعائلته السويس وقلبُه يتقطعُ دمعاً على وطنه، ولكنْ ما عساه يفعل؟!، لقدْ ظلّ شوقي كئيباً حزيناً على ظهر السفينة وهي تمخرُ عُبابَ البحر، وعندما وصلَ شوقي إلى برشلونة وهي أجملُ المدنِ الاسبانية، كان يقضى معظم وقته متأملاً على شاطئ البحر، يُطالعُ السفن القادمة والمغادرة، فيحنُّ قلبُه المُرهفُ إلى وطنه، وتراودُه الأحلام البعيدة بأنْ يُسمحَ له بالعودة، هكذا كان حالُ شوقي في المنفى، وعندما تحسّنت أحوالُه الماديّة قام بجولةٍ سياحيةٍ للمدن الإسبانية ، فزار قرطبة وغرناطة واشبيليّة وشاهد عظمة الآثار الإسلامية هناك، وتأمّل البصمة العربية في سحنات الوجوه وأطلال القصور، وظلّ في حالة تأمّل عميقة تجاه أحوال التاريخ، وكيف تبدل حالُ المسلمين هناك، فتذكر حالَ صديقِه البُحتري الشاعر القديم عندما زار أطلال إيوان كسرى المتهدمة، وتأمل زوال حضارة بني ساسان:
أذْكرَتْنِيهمُ الخُطوبُ التوالي
ولقدْ تُذكِرُ الخُطوبُ وتُنْسي
وفي ليلةٍ من الليالي الأنْدلسيّة الدافئة، استثارهُ صوتُ البواخر في الميناء، فتوجّع شوقي كثيراً، وقرّر أنْ يُعارضَ سينيّة البُحتري بقصيدةٍ لا تقلُّ عنها روعةً وإبداعاً، ابتدأها بتقليديّة الشعر الجاهلي ومخاطبة الصديقين المُتخيّلَين بأنْ يُعيدا على مسمعه ذكريات الصبا وأيام السعادة التي عاشها في وطنه:
اختلافُ النهارِ والليلِ يُنْسي
أُذكرا ليَ الصّبا أيامَ أُنسي
وصِفا لي مُلاوةً من شبابٍ
صُوّرتْ منْ تصوّراتٍ ومسِّ
ففي هذه السينيّة الفاخرة، تفنّن شوقي في زخرفتها بالمحسّنات البديعية الغير مُتكلّفة، فجاءت في غاية الحُسنِ والروعة، مثل الجناس في لفظتي (سلا):
وسلا مصرَ هل سلا القلبُ عنها؟
أوْ أسَا جرحَه الزمانُ المُؤسّي
فكلّما عمّ المساءُ على برشلونة، كانتْ قدما شوقي تسعى به إلى الميناء، هناك حيث يرتجفُ قلبُه شوقاً إذا سمع صوتَ الباخرة وكأنه عواءُ ذئابِ الليل، فيسرحُ خياله بالأماني أنْ تُقِلّه إلى بلده:
مستطارٌ إذا البواخرِ رنّتْ
أوّلَ الليل أوْ عوتْ بعد جَرْسِ
فيُشبّه قلبَه المُستطار في منفاه وكأنه مثل عُزْلة الراهبِ في صومعته:
راهبٌ في الظلوع لِلسُفْنِ فَطِنٌ
كلما ثُرْنَ شاعهنَّ بنقْسِ
ليُخاطبَ بعدها الباخرة مباشرةً، ويصفُ أباها (البحرَ) بالشهمِ الكريمِ الذي يُوصِلُ الناسَ إلى أوطانهم، فلِمَ هو بخيلٌ معه؟، فيمنعُه من الرحيلِ إلى مصر؟!.
يا ابنةَ اليمِّ ما أبوكِ بخيلٌ!
ما له مُولَعاً بمنْعٍ وحبْسِ
ليرتفعَ الانفعالُ الذاتيُّ عند الشاعر بعدها باستعمال الأسلوبِ الاستفهامي المنطقي، فيتساءلُ عنْ شرْعِيّة إقامةِ الإنجليزيِّ المُسْتعمرِ في بلاده، حيثُ يصفُ بلادَه مصرَ بالشجرةِ الوارفةِ (الدوح) التي تحتضنُ جميع أنواعِ الطيورِ عدا طائر البُلبل الذي يقصدُ به نفسه:
أحرامٌ على بلابلِه الدوحُ؟
حلالٌ للطيرِ منْ كلّ جنْسِ!
كلُّ دارٍ أحقُّ بالأهْلِ إلا
في خبيثٍ من المذاهبِ رجْسِ
ليصلَ إلى مُنتهى القلقِ النفسي في غُرْبته عندما يصفُ حالةَ نفسِه المتألّمة ويستلْهمُ أوجاعَها من مُكوّنات الباخرة، فيرى حنينَ نفسِه للوطنِ مثل غليان ِالمِرْجلِ داخل السفينة، وينعتُ قلبَه المضطرب بالشراعِ الذي تعصفُ به الرياحُ العاتية، أمّا ماء البحر الذي تطفوعليه السفينة فهو ماءُ دموعه:
نفْسي مِرْجلٌ وقلبي شراعٌ
بهما في الدموعِ سِيري وأرْسِي
ليطلبَ بعدها من الباخرةِ أنْ تتوجّه إلى الفنار (منارة الإسكندرية)، هناك حيثُ يتجوّلُ بسعادة في حارتي الرمل والمكس (أحياء داخل الإسكندرية):
واجْعلي وجهكِ الفنارَ ومجْراكِ
يدُ الثغرِ بين رمْلٍ ومكْسِ
ليصلَ إلى مُنْتهى الانفعال الذاتي، وبيتُ القصيدِ الذي أصبح مضربَ المثل في الوطنيّة الصادقة:
وطني لو شُغلْتُ بالخُلدِ عنْهُ
نازعتْنِي إليه في الخُلْدِ نفْسِي