حامد أحمد الشريف
أريد الاعتراف أولًا قبل استكمال ما بدأناه من وقفات تأملية لرواية ابنة الحظّ؛ أنَّني شعرت لوهلة وقت اندماجي كليًّا في تفاصيل الحكاية بأنَّ عليَّ المضي قدمًا في رحلة الاستمتاع بالقراءة وعدم الانشغال بالحديث عن الرواية، ولعل هذا ما جعلني أقطع شوطًا كبيرًا من القراءة الاستمتاعية - إن صح القول - قبل التوقف والعودة مرة أخرى للقراءة من البداية بالمنهجية الناقدة المجهدة. وكنت وقت اندفاعي وإغلاق قلمي؛ أعلل لنفسي تكاسلَها عن النهوض بهذه المهمة التشريحية، أو التأملية الفنية والأسلوبية وأنا أذكرها بأنه ليس شرطًا أن أقول شيئًا مع كل كتاب أتصفحه، فبعض الكتب تتشابه إلى حد ما في تفاصيلها الإبداعية، ويكفي التنويه عن أحدها لإيصال الرسالة، وبالتالي يمكنني القراءة والاستمتاع والارتواء الذاتي والمضي في طريقي كما يفعل القراء عادة، مكتفيًا بالمكتسبات غير المباشرة، التي سأجنيها يقينًا من مطالعة الأعمال الإبداعية؛ حتى وإن لم أرصد ذلك وأنوه عنه، ولقد عشت هذا الصراع بين المطالعة السلبية والإيجابية حتى انتصرَتْ أخيرًا رغبتي الملحة في الوصول لمكامن الجمال، ومعرفة أحد أسرار الأعمال الإبداعية، وتدوين ذلك سعيًا إلى ترسيخه والاهتداء به، كوني أشتغل في هذا المجال وأسعى جاهدًا لتطوير أدواتي الكتابية السَّردية من خلال القراءة الناقدة التي يحتاجها أي كاتب سرد؛ لمحاكاة هؤلاء المبدعين قبل رسم النهج الخاص به الذي يبتدئ من حيث انتهى السابقون الأولون، وكذلك كي يتطور باستمرار، ويتابع ما يستجد في مجال السَّرد من تقنيات وأساليب مبتكرة.
وبالعودة لتقنيات السَّرد وأسراره الإبداعية في رواية «ابنة الحظّ» أريد التوقف عند تقنية سردية غاية في الأهمية واستوقفتني كثيرًا في هذه الرواية الإبداعية بسبب أنَّها أتتْ على عكس المألوف، وأعني بذلك استخدامها بكثرة تقنية الإخبار بأحداث مستقبلية، بما يشير إلى تعمد الكاتبة الإتيان بها رغم أنها تقنية سرديَّة غير جيدة إن لم نحسن التعامل معها، فهي تُفقد العمل جزءًا من قيمته، وتستهدف تشويقه وإثارته التي يترتب عليها ضعف النص، لارتباطها بجودة التلقي من عدمه، وتهميشها وظائف العقل العليا التي لا تستغني النصوص الجيدة عنها مطلقًا.
والمفارقة هنا أن السردية رغم وقوعها في هذا الخلل الكبير في أكثر من موضع، وبأسلوب متعمد، وبطريقة مكررة، إلا أنها استطاعت الحفاظ على قيمتها الأسلوبية، وبقي البناء متماسكًا، ولم يُفقِدْ هذا النوعُ من الإخبار المستقبلي النصَّ إثارتَه وتشويقَه وتلقيه الجيد، كما ورد في ص234 في قولها: «لم تتأسف لين كثيرًا على موت الطفلة، وكأنَّها كانت مُدرِكة أنَّ الحياة لن تمتدّ بها لتربيتها.» انتهى كلامها. ونلاحظ هنا أن النص أخبر بموت زوجة «تاوتشين» الذي لم يقع بعد، وبالتالي قد يُعتقد أنَّ النص فقد عنصر التشويق والإثارة المطلوبة، بينما تأتي سياقات السَّرد لتؤكد أنَّ الحكاية الأم لم تتأثر مطلقًا بهذا الإخبار، فهي تحمل غموضًا أكبر ومفاجآت كثيرة تنتظر القارئ، غاب معها التأثير السلبي لهذا الإفصاح. وأيضًا لابد من التنويه هنا أنَّ السَّردية لم تعتمد الإفصاح عن المستقبل منهجية دائمة، وإنَّما زاوجت بين الإظهار والإخفاء حسب مقتضيات السَّرد، إذ إنَّ هناك بعضَ الأحداث تم إخفاؤها بشكل متعمد، وظهرت مع بوادر نهاية الرواية في سياقات سردية غاية في الجمال، كالإفصاح عن العلاقة التي تربط بين الآنسة «روز» و «إلزا»، حيث مضت الرواية في ذكر أنَّها لقيطة لا يعرف أصلها حتى الصفحة 320 حين ظهر أنَّها ابنة أخيها القبطان «جون» من علاقة غير شرعية، نطالع ذلك في ص320 و 321 من خلال حوار جميل بين الإخوة الثلاثة، هذا نصه: «ولكنَّها ليست ابنتك. ولا يترتب علينا أيّ واجب تجاهها: إنَّها لا تنتمي إلى هذه الأُسرة.
فصرخت روز:
ـ بل تنتمي!
ـ يكفي!
ـ قاطعها القبطان وهو يضرب الطاولة بقبضته بقوَّة، جعلت الأطباق والكؤوس تتراقص.
وكرَّرت مِس ْروز منتحبة وهي تغطِّي وجهها براحتَيْها:
ـ إنَّها تنتمي إلينا يا جيرمي. إلزا واحدة من أُسرتنا. إنَّها ابنة جون...
وعندئذٍ سمع جيرمي من أخوَيْه السرّ الذي احتفظا به طوال ستة عشر عامًا.».
كل ذلك يدعونا بالطبع للقول إنَّ تقليد مثل هذه الكتابات دون وعي؛ يوقع المقلد في إخفاقات هو في غِنًى عنها، إذ إنَّ تجاوز النظام يقتضي أولًا الإلمام بتفاصيله الدقيقة حتى يمكننا تجاوزه بطريقة احترافية لا تؤثر على مستهدفاته الفهمية والقيمية، بل وتوظيف هذا التجاوز في زيادة غَلَّتِه الإبداعية، وهو ما حدث هنا، فالإخفاء طال مواضعَ تخدم السَّردَ وترفع من مستوى تشويقه وإثارته، ولم يكنْ قاصرًا على حكاية «إلزا»، بل إنَّ هناك كثيرًا من الموا ضع التي استخدم فيها هذا الأسلوب.
كما أنَّ الإخبار أتى في مواضعَ هامشية وارتبط بأبطال هامشيين مثل «لينا» التي وردت حكايتها كاملة في بضع صفحات قليلة جدًا، ولم يكنْ الإخبار بموتها ليقللَ من قيمة السردية مطلقًا، بل على العكس وُظِّف لخلق قيمة إضافية بحيث يبحث القارئ عن تفاصيل هذه النهاية المعروفة سلفًا، بمعنى إشعال المساحة القريبة بهذا الحدث قبل انقطاع خبر موتها الذي أتى في الصفحة التالية، وكان حضورًا قيمًا يظهر براعة الكاتبة في إيصالنا إليه، ووصفه لنا بطريقة جعلتنا نتأثر بحدوثه وكأننا لم نكنْ نتوقعه، تقول في وصف كل ذلك ص235: «لقد رآها تعاني كثيرًا إلى حدّ الإحساس بأنَّ موتها سيكون راحة، ولكنَّه في فجر اليوم المشؤوم الذي استيقظ فيه معانقًا جسد لين البارد، ظنَّ أنَّه مات هو أيضًا! انطلقت صرخة طويلة ورهيبة، ولدت من أعماق الأرض بالذات، مثل جَلَبة بركان، فهزَّت البيت وأيقظت الحيّ.» انتهى كلامها. وكما يظهر هنا أن هذا الوصف الرائع جعلنا لا نلتفت لمفاجأة الحدث من عدمه، فهناك شيء جديد ينتظرنا يكمن في التفاصيل الصغيرة التي احتملها الوصف وأظهر لنا الإبداع الحقيقي في سرّدية النص.
هذا التوظيف الجيد لهذه التقنية استوقفني، ربما لأنه عاد بي لاستخدام سيء لهذا الإخبار المستقبلي، عثرت عليه في سرّدية عربية، وتحدثتُ عنه كسلبية قللت من قيمة العمل، والسبب أن تلك الرواية افتقرت إلى حد ما لعناصر الإثارة والتشويق في أساسها، وكانت بحاجة ماسة لهذا العنصر لزيادة تعلق القارئ بالنص. وكان في ارتباط الإخبار ببطل العمل وصيرورة الأحداث المهمة التي ينبغي إخفاؤها وتركها للنهاية؛ عنصر ضعف لا يمكن تجاوزه، واعتُبر سلبية نوهت عنها في إحدى مقالاتي السابقة، بينما شكل هنا مزية تضاف إلى قيمة العمل العالية، ونستفيد منه نحن بإدراك أنَّ الفهم -لا الحفظ- هو ما نحتاجه حتى تقدر الأشياءُ بقدرها، وتكون المحاكاة والتعلّم عن وعي وبصيرة، وهذا يقودنا أيضًا إلى الوقوف على أهمية علم المنطق في القراءة الواعية للكتب وحاجة القارئ للتسلح به بغية الاستفادة الحقيقية وليس تضييع الوقت والخروج بخُفَّيْ حنين.
وهناك أمر آخر غاية في الأهمية لا يمكن إغفاله في تقنيات السَّرد وأسراره الإبداعية، حيث إنَّنا ومن خلال هذا العمل؛ أُجبرنا - لمواكبة تاريخ هذه السَّردية - على البحث في الظروف الاجتماعية، والسياسية، والجغرافيا المكانية والزمانية والبشرية، من مصادر معرفية مستقلة بغية الاندماج الكلي مع الأحداث، وفهمها بطريقة جيدة، أو لنقل التأكد من واقعيتها. وقد تعمدت السَّردية ذكرَ تواريخَ محددة للأحداث طوال السَّرد حيث حُدد تاريخ القسم الأول بين عامي (1843م ـ 1848م) والقسم الثاني بين عامي (1848م ـ 1849م) والقسم الثالث والأخير بين عامي (1850م ـ 1853م) ولم تكتفِ بذلك، بل ظل التاريخ مصاحبًا لنا طوال السَّرد كقولها ص277: «وطئت أقدام تاوتشين وإلزا سوميرز أرض سان فرانسسكو أوَّل مرَّة في الساعة الثانية من مساء يوم الثلاثاء من شهر نيسان سنة 1849م.» انتهى كلامها. ويظهر هنا أن الزمنَ ذُكر بالساعة واليوم والشهر، وهو تاريخ محدد له مقتضياته التاريخية، ولا يمكن إغفاله في القراءة التشريحية الجيدة للعمل. وكل ذلك يقودنا إلى أمر غاية في الأهمية نجد معه أننا بحاجة لإعادة النظر في فهمنا لنظرية «رولان بارت» بجزئيتها المتعلقة بموت المؤلف وغيابه بكل متعلقاته، والاعتماد على محتوى السَّردية فقط في فهمها والحديث عنها، بينما نجد أنَّنا هنا بحاجة إلى العودة للتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع، ونحن نمضي مع السردية في رحلة اكتشاف الذهب في جبال شمال كاليفورنيا، وحكاية انفصال هذه الولاية عن المكسيك بمعاهدة «غوادا لوبي» التي أبرمت بالفعل في عام 1848م وأنهت الحرب المكسيكية الأمريكية، وقصة نشأة هذه الولاية، ووصولها إلى أن تكون من أهم الولايات الأمريكية المستهدفة من المهاجرين، من دول أمريكا الجنوبية وبقية دول العالم الثالث، والخلل الكبير في تركيبتها السكانية؛ بين السكان الأصليين من أصول مكسيكية وهنود حمر، والوافدين الجدد، والصراع الذي لايزال محتدمًا حتى يومنا الراهن، ويُشْعِل بين فترة وأخرى اضطرابات ومظاهرات عارمة تنذر بالأسوأ. والشاهد هنا أننا نشعر في مفاصل كثيرة بحاجتنا إلى معلومات إضافية، نفهم من خلالها التركيبة السكانية في تشيلي، وفي ولاية كاليفورنيا، وقت الحدث التخيلي الموصوف، ونحتاج أيضًا للعودة إلى المعجم السياسي؛ لفهم الظروف السياسية في انجلترا وتشيلي والصين وأمريكا، إذ إن لها انعكاسًا كبيرًا على الصراع الدائر داخالعمل السردي، كما أننا بحاجة لمطالعة كتب مستقلة تتحدث عن الحالة الاجتماعية في تلك البلدان وقت الحدث، فقد وردت كثير من التفاصيل الغريبة التي لا نراها مطلقًا في تلك الأماكن في هذا الوقت، وبالتالي نحتاج للتأكد منها بما يشبه النقد ال اجتماعي أو الثقافي والاشتغال على الأنساق المختلفة، أي أننا مجبرون على التأويل للعمل في سياقات مجتمعية وثقافية وسياسية وأيديولوجية، وكل ذلك يخرجنا خارج الكتاب ويجعلنا نتصادم مع رولان بارت ونظريته النقدية، كما ورد في قولها ص233: «ولكنَّ المرأة الشابَّة لم توافق مع ذلك على أن تضع مولودها أمام رجلَيْن، خصوصًا وأن أحدهما هو أجنبيّ ذو عينَيْن باهتتَيْن لا يُتقن التَّكلُّم بلغة البشر، وتوسَّلت إلى زوجها بأن يلجأ إلى قابلة الحيّ» انتهى كلامها. وكذلك حديثها عن الأسلوب الغريب في البحث عن زوجة بما يحاكي - إلى حد ما – ما هو موجود لدينا هنا في السعودية من الاستعانة بالأهل أو الخاطبات عند البحث عن عروس، نطالع ذلك ص228 في قولها: «وبما أنَّه بلا أبوَيْن يساعدانه في الإجراءات، مثلما تتطلَّب العادات، فقد أضطُرَّ إلى اللُّجوء إلى الوكلاء، عرضوا عليه صورًا لعدَّة مرشحات» انتهى كلامها. فكان لافتًا ـ كما يظهر في السياق ـ أنه يريد الزواج بطريقة تقليدية لا تمت بصلة إلى الصورة التي نعرفها عن المجتمعات الغربية المتحررة بما في ذلك الصين، وقد تكرر ذلك حتى في طريقة البحث عن زوج لإلزا من قبل والدتها بالتبني «روز» حيث استخدمت نفس الأساليب التي نراها في مجتمعاتنا العربية من لفت نظر الشاب للعروس وترغيبه فيها، ظهر ذلك في ص97 في قولها: «وقد قال لها القبطان جون سوميرز مبديًا رأيه عندما أخبرته بمخطَّطاتها:
-ستيوارد ليس سوى أحمق مهذَّب الأساليب. وإلزا ستموت ضجرًا إذا ما تزوَّجت منه.
- كلُّ الأزواج مملُون يا جون. فليس هناك امرأة لديْها قدر إصبعيْن من العقل تتزوَّج لكي تجد من يُمتعها، وإنما لكي تجد من يُعيلها.» انتهى كلامها. ويشي ذلك بأننا أمام أسرة عربية محافظة تبحث عن الستر لابنتها، وأيضًا يُظهر فلسفة معينة مضمرة داخل الحوار متداولة لدينا تتعلق باقتصار أهمية الزوج على الإنفاق، وكل هذا يدفعنا للقراءة خارج النص لتمرير هذه الصور غير المألوفة، وبالتالي نجد أننا أمام تعارض مع الاحتكام للنص في الفهم والتأويل، ما يجعلنا نعود للحديث مرة أخرى عن نسبية القوانين السردية وارتباطها بالعمل نفسه، وعدم اعتبارها قولًا واحدًا فصلًا يطبق على كل الأعمال، وبالتالي رفض قولبة الأدب.
تميز هذا العمل أيضًا بتنوع طرق السرد، ما بين «الكرونولوجي» الخطي وفق التسلسل الزمني المعتاد؛ و السرد المتناوب؛ وكذلك المتقطع، فكل هذه الأنواع تجدها في هذه السردية، بالإضافة إلى الانطلاق للأمام أو العودة من الخلف «الفلاش باك»، وكان التوظيف لكل هذه الأنواع المتداخلة غاية في البراعة والاتقان والتطابق مع الحاجة السردية. وظهر أن السرد الخطي هو الأكثر شيوعًا من بينها، ولكنه اقتصر على الصراعات المتعلقة بالحكاية الكبيرة الخاصة بإلزا وكذلك في العودة بطريقة «الفلاش باك» للإفصاح عن الشخصيات المضافة للصراع في إحدى مراحله، أو للإضاءة على الشخصيات التي ذكرت على استحياء في بداية السرد وغابت بعد ذلك ليأتي الإفصاح عنها لاحقًا، كما حدث مع إلزا وصديقها «تاوتشين»، الذي تعرفت عليه وقت أن قررت اللحاق بحبيبها «خواكين أندييتا» إلى كالفورنيا، وقام بتهريبها إلى تلك الولاية الأمريكية، وكانت هذه الشخصية المحورية قد حظيت بنوعين من السرد؛ وأعني بذلك، المتناوب والخطي، حيث ظهر بداية في أول صفحة من الرواية ص9 في قولها: «وقد اعتادت أن تقول لصديقها الوفيّ، الحكيم تاوتشين، إنَّ ذاكرتها أشبه بكرش السفينة التي تعارفا فيها، فهي فسيحة ومظلمة، ممتلئة بالصناديق والبراميل والأكياس، تتراكم فيها أحداث حياتها كلَّها.» انتهى كلامها، ويظهر هنا أن الكاتبة استخدمت التناوب والإفصاح عن أحداث مستقبلية، فبتنا نعرف من البداية ونحن نتحدث عن طفلة لقيطة أنها ستعيش تجربة تختلف تمامًا عن هذه البداية الموصوفة، بالانتقال في بطن سفينة؛ برفقة شخص من خارج العائلة، ولا وجود له في السرد التسلسلي الخطي الحالي، وكان الأمر شيِّقًا ونحن ننتظر الوصول إلى هذا الحكيم الذي ظل حضوره باهتًا جدًا، إلى أن التقيا وساعدها على الهرب. ولأنه يحمل قيمة معينة في السرد، وسيرافقنا في القادم من الحكاية، فقد توقفت الكاتبة وأفردت له المساحة التي يستحقها ليفصح عن حكايته كاملة، بطريقة خطية متسلسلة مرتبطة بالزمن من ولادته حتى التحاقه بسفينة من كان يعتقد بأنه خال إلزا «جون سوميرز»، وانفصاله عنه في نهاية الأمر وانتقاله إلى سفينة أخرى هي «أميليا»، والتحاقه بقبطان آخر هو القبطان الهولندي «فينسنت كاتز»، وهي الحكاية التي نطالعها بداية من ص195 حتى الصفحة 248 دون انقطاع، وتجلت فيها قيمة الكاتبة بهذا الاستخدام المتنوع لأنواع السرد، وبتوظيف مثالي جدًا، عكس ما ظهر لين استخدام غير جيد رغم الاعتماد على نفس الفكرة عند بعض الروائيين، وقد رصدت ذلك في رواية «لوعة الغاوية» للكاتب الروائي السعودي «عبده خال» حين ا ستلمت بطلة العمل «فتون» زمام الحكي وأسند إليها مهمة رواية حكايتها مع «مبخوت» بضمير المتكلم وبسرد خطي متسلسل مرتبط بالزمن، لكنه لم يكنْ موظفًا التوظيف الأمثل لاتساع مساحته، حيث امتد إلى مئة وتسع وستين صفحة شملها فصل واحد فقط، بينما كانت مساحة الفصول الأخرى تربو على العشرين صفحة، ولم يظهرْ التناوب السردي المنطقي، بل كان متقطعًا بطريقة غير جيدة، وهو ما يشير- كما أسلفنا- إلى أننا بحاجة لفهم كثير من التفاصيل الصغيرة المتعلقة بتقنيات السرد التي تجعلنا نقبل ولا نقبل بعض التجاوزات، أو نشعر بقيمة السرد وسبب عظمته انطلاقًا من تجاوزاته الإبداعية.
هذا التناوب الجميل وجدناه أيضًا مع حكاية والدتها بالتبني «روز» التي ظهرت حكايتها الشخصية ص111 وكانت قبل ذلك تُظهر شذرات منها بطريقة متقطعة ومتناوبة وبتقتير شديد قبل إفصاحها عن تفاصيل حكايتها كاملة، وإطلاعنا على قصة عشقها للمغني الإيطالي «كارل بريتزنر» من بدايتها وحتى انفصالهما، وانتقالها بعد ذلك للعيش في ميناء بالبارايسو، وهي الحكاية التي امتدت وسُردت لنا خطيَّا بطريقة متسلسلة ومرتبطة بالزمن من الصفحة 111 وحتى نهاية القسم الذي عنونته الكاتبة بـ «مس روز» ص128، بينما يظهر السرد المتقطع بطريقة غاية في الجمال وبأسلوب مقنع ومبرر وفي سياقات مهمة، وهو الأسلوب السردي الإبداعي الذي تُوظَّف داخله التقنيات والاشتراطات لإضفاء قيمة إضافية إلى العمل السردي، وقد تكرر ذلك كثيرًا كما يظهر على سبيل المثال في العودة للحديث عن موهبة «إلزا» المتعلقة بالشم في قولها ص9: «الجميع يولدون مزودين بموهبة ما، وإلزا سوميرز اكتشفت منذ وقتٍ مبكر أنها تملك موهبتين اثنتين: حاسة شم حادة وذاكرة قوية. وقد أفادتها الموهبة الأولى في كسب حياتها، والثانية في تذكرها» انتهى كلامها. وكانت بداية التعريف بهذا الوصف وإيضاح المقصود منه قد أتتْ لاحقًا في سياق الحديث عن الحياة التي عاشتها «إلزا» هاربة داخل بطن السفينة، وهي تتعذب بروائح المحتويات المخزنة في قولها ص249: «وتحوَّلت حاسَّة شمّها التي تتيح لها اجتياز العالم وهي مغمضة العينَيْن إلى أداة تعذيب لها» انتهى كلامها. أي أن السَّرد كان هنا مقطعًا بطريقة غاية في الجمال انعكس على قيمة السردية الإبداعية، لكنه بدا متناقضًا، فحاسة الشم كانت وبالًا عليها، بينما ظهرت في الوصف المستقبلي الذي ورد ص9 على العكس تمامًا من ذلك، تقول: «وقد أفادتها الموهبة الأولى في كسب حياتها» ما يجعل هذا الاستفهام يبقى عالقًا في ذهن القارئ يبحث عن إجابة، حتى يجد ذلك في خاتمة الرواية عند تأكده أن حاسَّة الشّم هي بالفعل من انقذت «الزا» وأكسبتها حياتها في قولها ص495: «أغمضت إلزا عينَيْها، وتركت تاو تشين يقودها، واثقة من أنَّ ضربات طبل قلبها تطغى على أنغام البيانو. توقَّفا، وأحسَّت بضغط يد صديقها على يدها، استنشقت جرعة من الهواء، وفتحت عينيْها. نظرت إلى الرأس بضع ثوانٍ، وتركته يقودها على الفور إلى الخارج.
سألها تاو تشين.
-أكان هو؟
فردت عليه من دون أن تُفلت يده:
-أنَّني الآن حرَّة…» انتهت الرواية.
وهكذا نجد الساردة تعود إلى نقطة البداية وتتخذها بوابة للخروج من العمل كاملًا معتمدة على الاستهلال السردي البديع، في تحد كبير لقدراتها السردية إذ استطاعت بعد كل هذه الصراعات المحتدمة أن تقنعنا بأن الصدف أو الحظ -رغم بنيته السردية واعتماد العمل عليه- إلا أنه كان واقعيًا، ومنطقيًا، ومقنعًا، ومفصحًا عن القوة الكبيرة التي امتلكتها الحكاية.
هذا التناوب والتقطيع في السرد بين حكايات الأبطال، وقفت عليه في رواية «دفاتر الوراق» للكاتب الأردني جلال برجس، لكنه، لم يظهرْ بهذا الإتقان بل كانت خطوطه شبه متوازية بانحرافية معينة تجعلها تلتقي في النهاية، وعُدَّتْ ميزة لذلك العمل لدى بعض النقاد، وربما أوصلته للفوز بجائزة البوكر العربية، لكنها على مستوى التلقي، شكَّلت إزعاجًا كبيرًا في تتبع الحكايات الشذرية، وكانت مستفزة للقارئ، وربما صرفته عن إتمام القراءة، لانقطاع كل حكاية بشكل مستفز ودونما سبب منطقي، وعودتها مجددًا بما يجعل التلقي مجهدًا ويربك النص، بينما لم تكنْ كذلك هنا، فالتناوب والانقطاع والعودة؛ مدروس ومتقن، شكَّل إضافة على مستوى التلقي، وعُدَّ السَّرد تبعًا لذلك مثيرًا ومشوقًا ومقنعًا، وأتى التقطيع في سياقات جميلة ومقبولة، وربما كان سببًا في وصف هذا النوع من السَّرد بالكلاسيكيات الواقعية السحرية ولعلي أطلق عليها إعادة تدوير الواقع وتحوله إلى أخيلة.
مما ميز هذا العمل أيضًا منطقية السَّرد المرتفعة جدًا، فبرغم ورود بعض الصراعات المرتبطة بالصدف؛ إلا أنها ظهرت بشكل منطقي ومبرر في سياقاتها السردية، وحاكت ما يحدث فعليًا على أرض الواقع، إذ إنَّ جزءًا كبيرًا من حياتنا هي صدف وحظوظ إما سيئة أو جيدة، ما أكسب العمل الحصانة والقوة والاقناع السردي، خلاف جمال الحكاية الكبيرة التي حوت جميع الصراعات الأساسية والفرعية، واستولت على كامل السَّرد كما نوَّهْتُ سابقًا، وكشواهد على هذه الصدف المنطقية والمقنعة؛ نجد التقاء «تاو تشن» بإحدى العاهرات على ظهر السفينة مصادفة وقراره باستخدامها لاحقًا عندما تولدت حاجة معينة لمهاراتها ومواصفاتها التي اشتهرت بها، ظهر ذلك في قوله ص255: «كان في طريق عودته إلى العنبر عندما جذبته يد من ذراعه. التفت متفاجئًا، ورأى واحدة من النساء التشيليَّات، خرجت لإغواء زبائن» انتهى كلامها. ليأتي القرار لاحقًا باستخدامها وقت أن شعر بحاجته إليها كما ورد في قولها ص261: «في تلك الليلة أدرك تاو تشين أنَّه لن يستطيع العناية بها وحده» إلى أن قال: «حتى أومأ لأثوثينا بلاثيرس ليكلمها.» انتهى كلامها. والشاهد هنا أن المشهد بدا تلقائيًا ومقنعًا جدًا، وأتى في سياقه رغم اعتماده في الأساس على المصادفة، ما يشير إلى أهمية السَّرد السهل الممتنع، وهي الصفة التي تعد لازمة لدى المبدعين تأتي بالسليقة دونما جهد، ويعجز عنها المتكلفين رغم اجتهادهم.
ومن المصادفات المكتوبة بطريقة رائعة ومقنعة وإبداعية؛ طريقة معرفة «جون سوميرز» لمكان «الزا» في قوله ص403: «عندما انتبه إلى صدرها. فقد كانت تضع بين نهدَيْها بروشًا ذهبيًّا مرصَّعًا بالفيروز. فصرخ وهو يمسكها من كتفَيْها بمخلبَيْن:
من أين جئتِ بهذا! « إلى أن اعترفت بعد الحاح منه بأنها أخذته من «الزا» عندما طببتها في السفينة بقولها ص404: «ولم تجد أثوثينا بلاثيرس بدًّا من أن تُخبر ذلك المعتوه بأنَّ طاهيًا صينيًّا هو الذي أعطاها البروش، مقابل العناية بفتاة مسكينة كانت تموت بسبب الإجهاض في قاع سفينة وسط المحيط الهادي.» انتهى كلامها. وبالطبع رصدت الكاتبة هذه الحادثة بكل تفصيلاتها الدقيقة حتى انتهت بتسلمها البروش وخروجها به من السفينة ص276 في قولها: «- أكدت لها أثوثينا بلاثيرس ذلك وهي تودِّعها بزوبعة من الرِّيش الأزرق، وبروش الفيروز يتدلَّى على صدرها.» انتهى كلامها. وهكذا يظهر لنا قدر اهتمام الكاتبة بالتفاصيل الصغيرة وعدم إهمالها جانب الاقناع السردي، رغم الصدف التي احتاجتها لانهاء كثيرٍ من الصراعات والوصول للنهايات المستهدفة، ووظفتها لتحقيق كل ذلك، ولكنْ باتقان يحسب لها، وهي -أي الصدف- بالتأكيد جزءٌ من حياتنا، ومن الطبيعي ظهورها في كتاباتنا التخيلية الواقعية، ولكنْ بشيءٍ من الاقناع والإبداع.
وجانب آخر من الإقناع السردي والمنطقية التي يجب أن تكون حاضرة في السَّرد الواقعي بدل السذاجة الكتابية التي نتعثر فيها كثيرًا في بعض السرديات الحديثة للمستسهلين أو غير المؤهلين، تتجلى في خاتمة حوار «أثوثينا» عندما عرف «جون» بأنها التقت بإلزا وأصبح همه العثور عليها وأراد معرفة مصيرها وسأنقل الحوار الجميل كاملًا لتتحقق الفائدة المرجوة تقول ص405: «فتوسَّل إليها وهو يضع رزمة من الأوراق النقديَّة في حضنها:
-بحق من تحبَّين يا امرأة، أخبريني بما جرى لها.
-ومن تكون حضرتك؟
-أنا أبوها.
-لقد ماتت نزفًا وألقينا بالجسد إلى البحر. أقسم لك، أنَّها الحقيقة.
ردَّت عليه أثوثينا بلاثيرس بذلك من دون تردُّد، لأنَّها فكَّرت بأنَّه إذا كانت تلك التعسة قد قطعت نصف الدُّنيا وهي مختبئة في جُحر مثل فأرة، فإنَّ إطلاق الأب في أثرها سيكون خِسَّة لا تُغتفر من جانبها.» انتهى كلامها. والشاهد هنا أنها أخفت عنه مصيرها، في تصرف مدهش وواقعي يمنح السردية قيمة إضافية وعميقة، فالحياة تقرأ بالفعل في هذه التفاصيل الصغيرة التي تجعلنا نتقبل مصادفاتها ودهشتها وقراراتها الصادمة، لأنها غالبًا ما تكون مبررة لأصحابها.
وأخيرًا فإن الصدف التي قادتني لتصفح هذه الرواية والحديث عنها أتت في سياقات منطقية ومبررة أصبح معها الوقوع على هذا العمل الجميل متوقعًا، كون الروايات العالمية التي تنام على أرفف مكتبتي وتنتظر دورها في القراءة؛ اختيرت وفق معايير محددة وجودة متوقعة وتنوع كبير، وبالتالي فإن الحظ الذي رسم حياة «إلزا» من بدايتها وحتى نهايتها، وهيَّـــأ لها الارتباط بـ «تاو تشين» في نهاية المطاف رغم أنه كان بين يديها من البداية ولم تلتفت إليه، وجعلنا نوافق الكاتبة في وصفها لإلزا بـ«ابنة الحظّ»، هو ذات المعطى الذي يسر لنا العثور على هذه الرواية وإلصاقها بالحظّ ونحن نرى مقدار ما تعلمنا منها.