د.عبد العزيز سليمان العبودي
تمثل رواية «العصفورية» للدكتور غازي القصيبي رحمه الله، نقلة فكرية في أدبنا العربي المعاصر، إذ تتجاوز حدود السرد التقليدي لتغوص في أعماق النفس البشرية، مستنطقةً قضايا الجنون والعقل من منظور فلسفي وثقافي بالغ التعقيد.
تدور أحداث هذه الملحمة الفكرية في فضاء مصحة عقلية، حيث يتجلى السرد في حوار مطول، أشبه بمناظرة وجودية، بين الطبيب النفسي ومريضه الاستثنائي، بشار الغول. هذا الأخير، أستاذ جامعي يمتلك ذكاءً موسوعيًا يلامس حدود العبقرية، لكنه يعيش في دوامة من الاضطراب النفسي، أو هكذا يبدو للعيان
هذا النمط السردي، الذي يتخذ من المصحة مسرحًا للكشف عن الحقائق المستترة، يجد له صدى عميقًا في أيقونات الأدب العالمي، مثل رواية «طيران فوق عش الوقواق» للكاتب الأمريكي كين كيسي، و»لم أعد إنسانًا» للياباني أوسامو دازاي، وكلاهما سبق «العصفورية» بسنوات، تاركًا بصمة لا تُمحى في تصوير العلاقة الشائكة بين العبقرية والتصدع النفسي.
في رواية «طيران فوق عش الوقواق»، يدخل البطل راندل ماكميرفي المصحة العقلية فرارًا من غياهب السجن، متخذًا من الجنون قناعًا يستر به تمرده الفطري على نظام قمعي، فيتحداه راندل بشخصيته الساخرة والذكية، ويكشف زيفه المتأصل. وتتجسد وحشية النظام في شخصية الممرضة راتشد ماكميرفي. وفي أحد السياقات، يقول عنه أحد المرضى، بعبارة تختزل جوهر شخصيته: «إنه ليس مجنونًا، إنه فقط ذكي أكثر مما ينبغي» هذه المقولة تتردد أصداؤها في شخصية بشار الغول في «العصفورية»، الذي يصدح في إحدى جلساته، بمرارة ووعي: «أنا لست مجنونًا، أنا فقط أرى ما لا ترونه، وأقول ما لا تجرؤون على قوله» كلتا الشخصيتين، إذن، تتخذان من الجنون ستارًا، ومنبرًا لكشف تناقضات المجتمع وهشاشته، لا كمرض عضوي يستدعي الشفقة، بل كأداة نقدية حادة.
أما في أعماق «لم أعد إنسانًا»، فنلتقي بالبطل أوبا يوزو، الذي يعيش حالة من الاغتراب الوجودي والانفصال الجذري عن نسيج المجتمع، فيشعر بعجزه عن التفاعل البشري الطبيعي، رغم امتلاكه لذكاء حاد. فيعترف في أحد مقاطعه المؤثرة: «لطالما شعرت أنني مهرج، مزيف، غير قادر على أن أكون جزءًا من الجنس البشري» هذا الشعور بالوحدة الروحية، رغم امتلاك أدوات الفهم والإدراك، يتجلى بوضوح في خطاب بشار الغول، الذي يعلن، بأسى وفلسفة: «أنا خارج الزمن، خارج الجغرافيا، خارج التصنيف.» كلتا الشخصيتين تعانيان من أزمة هوية عميقة، وتستخدمان المونولوج الداخلي والسخرية اللاذعة لتفكيك الذات، وكشف هشاشة الكيان الإنساني في مواجهة تعقيدات العصر.
يتسم الأسلوب السردي في الروايات الثلاث بالاعتماد المكثف على الحوار النفسي، مما يتيح للأفكار أن تتدفق بحرية مطلقة، بعيدًا عن قيود الراوي التقليدي. ففي «العصفورية»، يتحول الحوار بين بشار وطبيبه إلى ساحة فلسفية رحبة، يناقش فيها بشار أفكارًا تتراوح بين ابن خلدون وفرويد ونيتشه، ويمزج ببراعة بين التاريخ والدين والسياسة، في نسيج فكري فريد. هذا الأسلوب يتقاطع مع السرد في «طيران فوق عش الوقواق»، حيث تُروى الأحداث على لسان مريض آخر، الرئيس برومدن، الذي يرى العالم من زاوية مشوشة لكنها عميقة، ويقول في مقطع مؤثر: «الضباب يعود من جديد، الضباب يملأ المكان» هذا الضباب الرمزي يجسد حالة بشار الغول، الذي يرى الواقع العربي غارقًا في ضباب كثيف من التناقضات والإنكار، وكأن الحقيقة تتوارى خلف حجاب من الوهم.
من الناحية البنيوية والنفسية، تعاني الشخصيات الثلاث من اضطراب داخلي، ليس مرضيًا بالمعنى العضوي، بل هو نتاج اصطدام عنيف مع بنى المجتمع وقيمه. ماكميرفي يتمرد على السلطة الجائرة، ويوزو ينهار تحت وطأة التوقعات الاجتماعية الخانقة، بينما يرفض بشار الغول الانتماء إلى واقع يراه مشوهًا ومزيفًا. هذا الاصطدام يولد خطابًا نقديًا يتجاوز حدود الذات، ليطال البنية الاجتماعية والسياسية برمتها. فعلى سبيل المثال، في رواية «العصفورية»، يطلق بشار مقولته الشهيرة: «العقل العربي يعيش في مصحة، لكن بدون طبيب.» هذا التصريح يلخص رؤية القصيبي الثاقبة للواقع، ويشبهه إلى حد بعيد ما يقوله كيسي على لسان ماكميرفي: «الجنون الحقيقي هو النظام، وليس الناس» في هذا التوازي، يتجلى عمق النقد الذي يوجهه الأدباء للأنظمة التي تفرض الجنون على الأفراد.
من المرجح جدًا أن القصيبي، بحكم إقامته في الغرب واطلاعه الواسع على الأدب الإنجليزي، قد قرأ رواية «طيران فوق عش الوقواق». وربما استلهم منها فكرة المصحة العقلية كمسرح للحوار الفكري، واستخدام الجنون كوسيلة للنقد الاجتماعي. ومع ذلك، فقد أعاد القصيبي تشكيل هذه العناصر بأسلوبه المتفرد، فصاغ من بشار الغول شخصية عربية أصيلة، موسوعية المعرفة، تتحدث بلغة مزدوجة تجمع بين فصاحة البيان ومرارة التهكم، وتستند إلى مرجعيات إسلامية وثقاف ية عميقة، مما يضفي عليها بعدًا خاصًا ومميزًا.
في الختام، يمكن القول إن «العصفورية»، على الرغم من خصوصيتها الثقافية العربية، تندرج ضمن تيار أدبي عالمي عريق، يتخذ من الجنون مرآة عاكسة للواقع، ويجعل من البطل المضطرب نفسيًا صوتًا للحكمة المتمردة. إن التشابهات البنيوية والفكرية مع روايتي كين كيسي وأوسامو دازاي لا تنتقص من فرادة القصيبي وإبداعه، بل تضعه في سياق أدبي أوسع وأكثر عمقًا، حيث يتحول الجنون إلى أداة معرفية لفهم تعقيدات الوجود الإنساني، وكشف زيف المجتمعات، وإعادة تعريف مفهوم العقل ذاته في عالم يزداد تعقيدًا وتناقضًا.