صالح الشادي
لم تكن القنابل التي تسقط على البيوت الفلسطينية هي السلاح الوحيد في معركة الاحتلال، بل كانت شاشات التلفاز وساحات التواصل الاجتماعي ميداناً آخر للمعركة، معركة الصورة والرواية والوجدان.
تبدو معادلة الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع الإعلام معادلة محكمة التناقض: يريد للعرب أن يشاهدوا كل شيء من قتل وتدمير وتهجير، ويريد للغرب أن يغلق عينيه عن كل شيء. إنها «سياسة الإبصار الانتقائي» التي تتبع منطقاً نفسياً عميقاً.
فمن جهة، تتيح رؤية العنف للعرب كرسالة ترهيب نفسي، تعزز فيها مفهوم «القوة المطلقة» و «العجز الحتمي».
هذه الفلسفة تستند إلى قراءة تاريخية لواقع النطاق العربي، حيث الغضب الانساني يبقى حبيس الصالونات والصدور ولا يتحول إلى سياسات فاعلة.
أيضاً هناك بعد نفسي أكثر عمقاً في هذه الرؤية، يتمثل في النظرة الدونية للشعوب العربية التي تروجها الأيديولوجيا الصهيونية. إنهم في مخيلتهم «جبناء» يخافون، «ضعفاء» لا يقدرون على المواجهة، وهذا يتجلى في سماحهم ببث مشاهد العنف في بعض اجهزة الإعلام العربي وحتى انتقادهم وشتمهم اذا دعت الضرورة ليكون الامر طبيعيا، اعلام عربي يشتم محتل غاصب الامر الذي يشكل وقعا عاطفيا مؤثرا عند العامة وثقة في نزاهة تلك الشاشة أو تلك.
هذه النظرة الاستعلائية تستمد جذورها من التراث الاستعماري الذي نظر لـ «الشرق» ككيان همجي يحتاج إلى ترويض بالعنف، بينما «الغرب» كيان مدني يجب حمايته من مناظر العنف.
لكن المعادلة بدأت تنقلب في العقد الأخير، وخصوصاً مع ظهور منصات مثل «تيك توك». اذ لم يعد المشهد حبيس الشاشات العربية، بل تسلل إلى الغرب نفسه، حاملاً صوراً لم يشهدها من قبل.
لقد سقط الجدار الإعلامي الذي بني بعناية طوال عقود. لم تعد الرواية الصهيونية هي المهيمنة، وصار المشاهد الغربي العادي يرى بأم عينيه ما يجري، دون وساطة المذيع المتحيز أو المحرر المسيس.
هذا التحول سبب صدمة للرواية الصهيونية، لأن الصورة عندما تصل مباشرة إلى عقل وقلب المشاهد الغربي، تتجاوز كل آليات التلاعب اللفظي والتحيز الإعلامي. لقد بدأ الرأي العام العالمي، خاصة بين الشباب، يشكك في الرواية الرسمية.
وهنا نرى ذلك الاندفاع الأمريكي الصهيوني للسيطرة على تيك توك، لأنه ببساطة لم يعد منصة للترفيه، بل تحول إلى منصة للحقيقة، وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه آلة الدعاية الصهيونية.
اللافت أيضاً تلك «الازدواجية المدروسة» في التعامل مع بعض الجمهوريات القريبة . اذ يسمح لزعمائها بتوجيه انتقادات حادة لإسرائيل في الخطابات الرسمية، بينما تظل الأيدي ممدودة تحت الطاولة للتعاون الأمني والاقتصادي.
إنها سياسة «الصنبور المسموح به» حيث يُفتح مجال محدود للغضب الشعبي كصمام أمان، بينما تستمر المصالح الاستراتيجية بعيداً عن أعين الجمهور. هذه اللعبة السياسية المعقدة تذكرنا بمقولة مكيافيلي الشهيرة: «السياسة لا مكان فيها للعواطف».
اليوم، في عصر الشفافية الإعلامية، لم تعد القوة المطلقة للدبابات هي التي تحسم المعارك، بل قوة الصورة والحقيقة. لقد أدرك الفلسطينيون والعرب أن كاميرا الهاتف المحمول قد تكون سلاحاً أقوى من الرصاصة في بعض المعارك.
إنها معركة وجود على جبهتين: جبهة الأرض والدم، وجبهة العقل والقلب. والثانية قد تكون الأكثر تأثيراً في المدى البعيد، لأنها تشكل الرأي العام العالمي الذي هو رأس مال السياسة في العصر الحديث.
ربما تكون هذه المفارقة التاريخية: أن القوة الغاشمة التي تمتلكها آلة الحرب الصهيونية هي نفسها التي تنتج صوراً تفضحها أمام العالم. وفي هذه المفارقة يكبر أمل المستضعفين، بأن الحقيقة لا تُقتَل، بل تنتظر لحظتها التاريخية لتعلن عن نفسها.