خالد محمد الدوس
النسر هذا الطائر العملاق الجارح ليس مجرد طائر فقط.. بل أصبح رمزا للصمود والنهوض والعزم، حيث تقدم دورة حياته استعارات عميقة ودلالات بنائية يمكن أن نطبقها على حياتنا الخاصة.. من خلال عملية التجديد المؤلمة التي يمر بها (النسر) يمكن أن تكون مرآة للتجارب الإنسانية. فهذا الطائر المتجدد بروح شبابه وصلابة إرادته يواجه» الأزمات» في دورة حياته بشجاعة التجديد أو الموت..!! فحين يصل منتصف عمره حوالي (30-40 سنة).. وكما يشير علماء الأحياء المتخصصون يواجه أزمة وجودية..! إذ يصبح منقاره معقوفا وضعيفا، ومخالبه لم تعد حادة يصطاد بها فرائسه كما كان في عـّــز شبابه وعنفوانه، وريشه يصبح ثقيلا ومتسخا، وأجنحته تثقلها الدهون وكثرة إفرازاته في هذه المرحلة العمرية.. وإزاء ذلك يصبح أمام خيارين لا ثالث لهما..!!
إما الاستمرار كما هو بين كماشة الضعف وعدم القدرة اللياقية والقوة على اصطياد فريسة فيصبح صيده بالتالي شبه مستحيل ويموت جوعاً..! أو الخروج من دائرة الوهن والخضوع لعملية مؤلمة ولكنها ضرورية للتجديد واستعادة (القوة النسرية).
وحتى يتجدد في دورة حياته المثيرة للجدل يطير النسر إلى مكان عال ومعزول بعيدا عن كل المشتات والضغوط والأنظار.. وفي العش الخاص به المعزول يركز كل شحنات طاقته الحيوية المتجددة على عملية التحول والترميم الفسيولوجي من جديد أو ما يسمى بعملية التخلص من القديم (الانسلاخ المؤلم)..!!
حيث يبدأ النسر عمليته المؤلمة بضرب منقارة في الصخور حتى يتساقط ليساعده على النمو من جديد..! وينتظر نمو منقار جديد ثم يستخدمه لنتف جميع مخالبه القديمة، ثم ينتظر نمو مخالب جديدة ثم يستخدمها لنتف جميع ريشه الثقيل والقديم..!!
وهذه العملية التحولية التي يقدمها المعلم النسر في دورة منتصف العمر تستغرق حوالي خمسة أشهر-كما ذكرها العلماء المتخصصون - من الألم والصبر والعزم والإرادة القوية والشجاعة حتى تعيد للنسر هيبته وقوته وعنفوانه ومكانته العالية في عالم الطيور.!
طبعا في حياتنا بعضنا يواجه أزمات منتصف العمر أو فترة ركود سواء في حياته المهنية أو الشخصية أو الصحية.. ولذا النسر يقدم دروسا تنويرية بالمجان.. يعلمنا أن التغيير المؤلم ضروري أحيانا للبقاء والنمو.. الخوف من التغيير يمكن أن يؤدي إلى موت بطيء (روحي، نفسي، عقلي، مهني).. بينما الشجاعة لمواجهة الألم والأزمة تؤدي إلى ولادة جديدة من الأمل والقدرة على النهوض بقوة أكبر.. ولذلك النمو الحقيقي يتطلب عزلة طوعية ليس بالضرورة «عزلة جسدية « كاملة..!
ولكن القدرة على الابتعاد عن الضوضاء اليومية والتشتت الفكري والآراء الخارجية غير الإيجابية والتركيز على التأمل الذاتي وإعادة التقييم، وعلى طريقة (المعلم النسر) في فترة العزلة والتخلص من القديم ورواسبه الفكرية نخرج بإمكانات جديدة والإعلان عن الولادة الجديدة والتحلق بقوة متجددة وحماس فولاذي للحياة تكون أكثر نضجا وقوة وثقة للتحديات ومواجهة الأزمات العمرية.!
قصة تجديد النسر هي لاشك استعارة مذهلة للرحلة الإنسانية نحو النضج والتحرر من الأفكار السلبية والمشاعر الإحباطية خاصة مع تقدم الفرد في مراحله العمرية هذه القصة تدعونا إلى التسلح بالشجاعة لمواجهة أزماتنا العمرية بدلا من الهروب منها، تتطلب أيضا الإرادة لتحمل الألم المؤقت من أجل مستقبل حياتي أفضل.. تتطلب الحكمة لمعرفة متى يجب أن نعزل أنفسنا للتركيز على نمونا الفكري والسلوكي.. تتطلب الصبر على عملية التغيير للأفضل.. تتطلب الثقة والتسلح بها التي تشكل العمود الفقري في عملية النجاح بأننا سنخرج من التجربة بشكل اقوى وأكثر إشراقا لحياة أجمل، فما أروع النظام البيئي الذي يقدم لنا الدروس الملهمة واستخلاص الفوائد والفرائد في فن البناء والتجديد والتكيف مع دورة الحياة وتحدياتها.