د. ناهد باشطح
فاصلة:
«الصحافة الجيدة لا تقول للناس ماذا يفكرون، بل تُعلّمهم كيف يفكرون».
- والتر ليبمان -
**********
لا يبقى الإنسان في مهنة يحبها دون أن يسعى إلى تطوير أدواته فيها، ورحلتي التي بدأت في عالم الصحافة عام 1986م شكلت في وجداني حياة كاملة من الوعي الصحافي والإنساني في آنٍ واحد.
في عام 1998، كنت أكتب مقالتي الأسبوعية تحت عنوان «مسؤولية». في ذلك الوقت، كانت الكلمة الصحافية أداة للتوجيه والتنوير، وتحمل مسؤولية ما يُنشر.
كان التحدي مزدوجًا: إيصال الحقيقة بدقة، وفي الوقت نفسه كسب ثقة القارئ في بيئة إعلامية محدودة وقيود اجتماعية واضحة.
كانت الصحف تزدهر بالمواد الصحافية المتنوعة من تحقيقات وتقارير ومقابلات وأخبار ولم يكن للشائعات مكان، وكانت نبرة الالتزام والمسؤولية تسيطر على الخطاب الإعلامي آنذاك.
«مسؤولية» لم تكن مجرد اسم عمود صحفي، بل موقف ينقل رأي رجل الشارع، لكن لم يكن هناك مجال واسع للتأمل أو تحليل أعمق للخطاب الإعلامي أو النفسي وراء الأخبار التي أصبح اليوم انتشارها لا يهتم بالمصداقية.
إن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي أفرز سرعة في انتشار الأخبار، بعضها دقيق، وبعضها مضلل، وأصبح الجمهور أكثر نشاطًا وتفاعلاً، وأكثر تشككًا، لكنه في الوقت نفسه عرضة للإشاعات والتضليل. هنا ظهر التحوّل الذي دفعني لإعادة صياغة رؤيتي الصحافية.
التحول لم يكن مجرد تغيير في أسلوب الكتابة، بل في طريقة النظر إلى الخبر والإنسان خلفه.
الكلمة لم تعد فقط لتذكير الناس بما هو صحيح، بل لفهم لماذا يصدقون ما يُنشر، وكيفية تفكيك الخطاب الإعلامي الذي يفرض نفسه على وعي المجتمع.
منذ أول مقالة كتبتها كنت أؤمن أن دور الكلمة هو أن تُوجّه، أن تُصلح، أن تُذكِّر، لكن بعد سنوات عدة من الكتابة والبحث في النفس والوعي، أدركت أن المسؤولية لا تكون في الوعظ، بل في الفهم.. وأن وراء كل سطر يُكتب، سطرًا آخر لا يُرى.
ولأن الصحافة لم تعد بالنسبة لي مهنة تسأل «من المخطئ؟»، بل رحلة تسأل «لماذا نفكر بهذه الطريقة؟».
الصحافة اليوم تحتاج عيونًا ترى ما وراء الأخبار والتعليقات والمناقشات من هذا السياق، وُلدت فكرة عمود «ما وراء السطور».
الاسم يعكس الانزياح من الموقف التوجيهي إلى التحليل الاستقصائي العميق، فالهدف اليوم ليس إصدار الأحكام، بل كشف ما لا يُقال، وفهم دوافع الأحداث والشائعات والاتجاهات الاجتماعية.
كنت في زمن مضى صحافية وكاتبة تبحث عن الحقائق لكنني اليوم الإنسانة التي تبحث عن الصدق والعمق، لذلك قررت أن أغيّر عنوان وفكرة مقالتي الأسبوعية «ما وراء السطور» لن تكون مقالة أسبوعية فقط، بل مرحلة نضج فكري وروحي.
أكتب لأذكّر نفسي وإياكم بأن لكل إنسان روايته، ولكل موقف دوافعه.
سوف أسعى في كل مقالة لتوضيح كيفية تشكّل الأخبار، ما وراء العناوين، وكيف يمكن للخطاب الإعلامي أن يصنع وعيًا، أو يضلله.
هذا التحول سيعكس أيضًا نضج المقالة الصحفية الحديثة في التحول إلى خطاب الوعي النقدي والتحليلي، الذي يجمع بين المهنية الصحافية والبصيرة الشعورية.
الصحفيون اليوم لم يعودوا مجرد ناقلين للخبر، بل محققون ومحللون ومفسّرون للواقع الاجتماعي والنفسي.
عملي في «ما وراء السطور» سيتيح لي تحليل الشائعات، وكشف التضليل الإعلامي، بأسلوب يوازن بين المهنية والإنسانية.
إنها رحلة وعي تستند إلى تجربة تمتد لعقود، وتجعل من كل خبر فرصة للتأمل، التحليل، والفهم العميق لما وراء السطور، أرجو أن تنال رضاكم.