أحمد الجروان
في كل رحلة مع المترو أشعر أنني ضيف على حكايات لا تنتهي.
أجلس أحيانًا على مقعد، وأقف أحيانًا مستندًا بالعمود، لكن دوري لا يتغير.. الإصغاء.
الأحاديث تمر بجانبي كمشاهد قصيرة، بعضها يضيع في الزحام، وبعضها يترك أثرًا باقيًا، يدفعني لكتابة قصة قصيرة، واضحة الملامح، خافية الأسماء.
في ذلك اليوم كان الزحام مختلفًا. توقف القطار في محطة مكتظة. دخل ثلاثة أصدقاء ووقفوا متقاربين عند الباب.
بدأوا حديثًا عن الاتصالات والفضاء. لم يشغلني موضوعهم كثيرًا، لكن أسلوب حديث ثالثهم شدني. كان يتحدث بالفصحى، كأن الجمل خرجت من درس لغوي في الصف، لا من عربة مزدحمة. أكاد أجزم أن من سمعه تعجب مثلي.
في المقابل، كان صديقه الثاني يتحدث بالعامية، يدس بين الجمل كلمات إنجليزية تتكرر بلا توقف.
أما الأول فبدا أكثر بساطة، ينساب كلامه اليومي كأنه حديث شارع.
كانت الكلمات تتقاطع، مرة تُفهم بوضوح، ومرة تتشوش المعاني فلا تصل بوضوح.
تيقنت لوهلة أن البيت هو أول مكان نتعلم فيه الكلام.
الكلمات الأولى نتلقاها من الأسرة، وطريقة النطق تنغرس هناك، وأحيانًا حتى المزج بين لغتين يبدأ من البيت.
لكن ما رأيته في العربة جعلني أفكر أن المحيط اليومي قد يكون أقوى من الأسرة نفسها. الأصدقاء يتحولون إلى معلمين بلا قصد، يصوغون طريقة الكلام، ويفتحون أبوابًا جديدة للهجات وألفاظ.
بحثت عن السبب وراء تنوع اللهجات، العامية والفصحى والمدعومة بالكلمات الأجنبية.
وجدت تقريرًا لمجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية أشار إلى أن الأسرة هي اللبنة الأولى في تكوين اللغة، ومنها تنغرس الكلمات الأولى وتتشكل طريقة النطق.
لكن الدراسة نفسها أوضحت أن المحيط الخارجي لا يقل أثرًا.
الخدم في المنازل، شاشات التلفاز، ووسائل الاتصال الحديثة، كلها تصنع بيئة لغوية موازية،
تؤثر في اختيار الألفاظ، وتترك أثرها على لسان الأبناء.
وعندها تذكرت مشهد المترو. ثلاثة أصدقاء بلهجات متباينة، وكأن التقرير تحوّل أمامي إلى صورة حيّة، تشرح كيف تتقاسم اللغة بين ما ورثناه في البيت، وما نلتقطه من المحيط من حولنا.
كان حديثهم عن الاتصالات يتشعب، مرة يذكرون الشبكات، ومرة يتطرقون إلى الفضاء.
كل منهم يعرض فكرته بطريقته، عامية سريعة، فصحى متأنية، وكلمات أجنبية تسكن بين الجمل. دائرة استماعي تحولت إلى لوحة لغوية، تجمع ألسنًا مختلفة، أجد فيها ما يستوقف سمعي. لا أعلم إن كان المزج بين كلمات عربية وأخرى إنجليزية أو فرنسية وغيرها سيؤثر على لسان الجيل القادم؟
التعليم العام ما زال يحرص على تثبيت العربية الأم، ويغرسها في المناهج والدروس.
لكن تأثير المحيط حاضر، يجعل الألسن أكثر مرونة، ويضيف طبقة جديدة على اللغة اليومية.. هكذا تنمو لهجة الجيل، بين أساس راسخ وتعابير ماضية.
الحياة تمتلئ بلغات لا نلتفت إليها.
ابتسامة عابرة، حركة سريعة، أو أشياء أخرى.
كلها تمر كأنها عادية، وهي تحمل معناها لمن يتأملها.
وهكذا تبدو الرحلات اليومية، مليئة بإشارات صغيرة، لا ننتبه إليها إلا حين نترك أنفسنا للإصغاء.