عبدالله صالح المحمود
في القرن الماضي، كانت السيادة تُقاس بحدود الأرض وقدرة الدولة على الدفاع عنها، ثم اتسعت لتشمل السماء والبحار والفضاء الخارجي. اليوم، تتكشف أمامنا ساحة جديدة لا تقل خطورة: الفضاء الرقمي. لم تعد الحرب المقبلة حربًا على النفط أو الممرات البحرية فحسب، بل على البيانات والمعلومات والبنية التحتية الرقمية التي تشكّل شرايين الدول الحديثة.
السعودية، وهي تخوض مرحلة التحول الأكبر في تاريخها، تدرك أن الأمن الوطني لم يعد منفصلًا عن الأمن السيبراني، وأن حماية الحدود الرقمية لا تقل أهمية عن حماية الحدود الجغرافية. فالهجمات الإلكترونية قادرة في دقائق معدودة على تعطيل مطارات، وإطفاء محطات كهرباء، وشل أنظمة مالية كاملة. إنها حرب لا تُرى بالعين، لكنها تُحدث أثرًا يفوق الصواريخ والدبابات.
المعركة ليست محلية، بل عالمية، فالدول الكبرى تتسابق لتأمين سيادتها الرقمية عبر التحكم في سلاسل التوريد التقنية، وامتلاك شبكات الجيل الخامس والسادس، وحماية مراكز البيانات العملاقة. وفي هذا السباق تبرز السعودية كلاعب محوري، إذ أطلقت برامج ضخمة في الذكاء الاصطناعي والأمن السيبراني، وأنشأت المركز الوطني للذكاء الاصطناعي لتطوير التطبيقات السيادية للبيانات، والأكاديمية الوطنية للأمن السيبراني لتأهيل الكفاءات الوطنية في هذا المجال، إلى جانب تأسيس الهيئة الوطنية للأمن السيبراني لحماية الفضاء الرقمي، ومشاريع عملاقة مثل المراكز الإقليمية للبيانات التي تجعلها عقدة اتصال رقمية عالمية، ما يعكس حجم الجهود المبذولة لتأمين فضائها السيادي الجديد وتعزيز قدراتها في حماية البنية الرقمية.
وسط هذا التحوّل يتقدّم سؤال جوهري: ما معنى السيادة الرقمية؟ إنها ببساطة قدرة الدولة على التحكم في بياناتها، وتأمين شبكاتها من التهديدات الخارجية، وضمان استقلال قرارها التقني بعيدًا عن الابتزاز أو التبعية. من يمتلك البيانات يمتلك النفوذ، ومن يسيطر على الفضاء الرقمي يفرض هيبته على العالم.
إن التحدي القادم أمام السعودية والعالم لا يقتصر على بناء جدران سيبرانية عالية، بل يمتد إلى بناء وعي سيادي رقمي يشمل المواطن والمؤسسة والحكومة معًا. فالمواطن الذي يُفشي بياناته بلا وعي يُشكّل ثغرة في منظومة الأمن، والشركات التي تعتمد على منصات أجنبية دون حلول وطنية تمنح مفاتيحها لغيرها دون أن تدرك.
المملكة، وهي تسابق الزمن في توطين التقنية وتعزيز الابتكار الدفاعي، أمامها فرصة تاريخية لتكون رائدة في صياغة مفهوم السيادة الرقمية، ليس فقط لحماية نفسها، بل لتقديم نموذج عالمي في إدارة الفضاء الرقمي. فالمعركة المقبلة لن تُحسم بالصواريخ ولا بالاقتصاد وحده، بل بمن يملك مفاتيح العالم الرقمي.
وفي هذا السباق المتسارع، يجب أن ندرك أن الحدود المقبلة ليست على الخرائط، بل في الشبكات. وأن السيادة لم تعد كلمة عسكرية فحسب، بل رقمية بالدرجة الأولى. والسعودية، بما تملكه من رؤية طموحة وإمكانات تقنية متقدمة، قادرة على أن تكون في طليعة هذه المعركة القادمة.