د. رانيا القرعاوي
بعد عامين من الحرب في غزة، يمكن القول إننا شهدنا للمرة الأولى حربًا لم تُحسم في الميدان، بل على الشاشات والهواتف. حربٌ كشفت أن الصوت والصورة، إذا امتلكا الصدق والتعاطف الإنساني، قادران على إزاحة أعتى أدوات الدعاية الممنهجة.
فبينما فقدت إسرائيل قدرتها على صناعة «الصورة الإنسانية» التي طالما استخدمتها لتبرير سياساتها، نجح الإعلام العربي لأول مرة في قلب المعادلة، وتغيير الرأي العام العالمي تجاه ما يحدث على الأرض.
لقد كانت هذه المرة الأولى التي ينتصر فيها الإعلام العربي على الإعلام الصهيوني، وتتحول وسائل الإعلام إلى عين العالم وضميره. فمقاطع بثّها شاب من تحت الأنقاض او طفل جائع وصلت إلى ملايين المشاهدين، بينما فشلت كبرى المؤسسات الغربية في تبرير صمتها أو انحيازها.
الإعلام التقليدي مالَ بطبعه إلى القصص المأساوية والصور الدامية، وأتقن لأول مرة نقل نبض الناس، لا العنتريات السابقة، وأكد الصورة قادرة على تحريك الضمير الإنساني حين تُروى بلا وسائط.
ولعل هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ؛ فقد كان نتيجة دروسٍ مؤلمة من تاريخ الإعلام العربي. ففي نكسة 1967، عاش المتلقي العربي على وقع بيانات النصر الوهمية، حيث كانت الإذاعات تذيع بلاغات عسكرية منتصرة بينما الجيوش تتراجع على الأرض. ذلك الخطاب المضلِّل لم يهزم الثقة فحسب، بل رسّخ صورة إعلامٍ يُخفي الهزيمة وراء الشعارات.
وفي حرب الخليج عام 1991، كرّر الإعلام العربي الخطأ ذاته. حينها ظهر وزير الإعلام العراقي، محمد سعيد الصحّاف، ليعلن أن القوات العراقية «تتقدم نحو النصر»، فيما كانت بغداد تتعرض للقصف الشامل. كان ذلك المشهد ذروة انفصال الخطاب الإعلامي عن الواقع، وأحد أبرز أسباب انهيار الثقة بالإعلام الرسمي لعقودٍ لاحقة.
أما اليوم، فالمعادلة انقلبت صار المتلقي صانعًا للرواية وناقلًا للحقيقة. واستطاع الإعلام أن ينجح عندما نقل الحقيقة دون تزييف، وتحوّل الإعلام من أداة تزيين للسلطة إلى أداة وعي جماعي تحفظ الحقيقة من التشويه.
وفي موازاة هذا التحوّل الإعلامي، لا يمكن إغفال الدور السياسي الذي قادت به السعودية في تنفيذ جهود السلام خلال العامين الماضيين، إذ قدّمت كل ما يلزم لتهيئة المناخ للحوار، وتقديم المساعدات الإنسانية وأثبتت أن العمل الهادئ والعميق هو الذي يصنع النتائج.
كما لعبت مصر دورًا محوريًا في تثبيت الهدنة وتنفيذ تفاصيلها الميدانية، لتُظهر في النهاية أن العمل في المراحل الأخيرة لا يقل أهمية عن صياغة الاستراتيجية الأولى؛ بل هو الذي يمنحها معناها وثمارها.
وهنا يكمن الدرس الحقيقي لكل من يخطط ويقود، أن من يكتب الاستراتيجية ليس بالضرورة من يقطف ثمارها، لكن إن نجح الإعلام في توثيق الحقيقة والجهود من خلال روايات سردية وأفلام وثائقية فسينجح في نقل الحقيقة للأجيال القادمة. فكما قال نابليون بونابرت» «أخاف من ثلاث صحف أكثر مما أخاف من مائة ألف حربة»
وهنا يبرز جوهر نظرية التأطير الإعلامي (Framing Theory) التي تؤكد أن طريقة عرض الحدث أهم من الحدث ذاته، لأنها تحدد كيف يفهمه الناس ويشعرون به. الإعلام العربي، عبر روايته الجديدة، أعاد صياغة الإطار الإنساني للقضية، ليحوّلها من خبرٍ سياسي إلى قصة أخلاقية تمسّ وجدان كل إنسان.
لقد انتصر الإعلام هذه المرة، لا لأنه أقوى، بل لأنه أصدق. وانتصرت غزة، لأن روايتها خرجت من فم طفل لا يملك إلا هاتفًا، لكنها وصلت إلى كل بيت أسرة في العالم.