د.عبدالله بن موسى الطاير
ناشطون ومشاهير أمريكيون يمينيون ينذرون قومهم أن أمريكا تتجه نحو حرب أهلية، مُلقين باللوم على هوية وطنية مُتهالكة تآكلت بفعل التنوع الديموغرافي. يندبون أمة كان المسيحيون البيض يمثلون فيها عام 1976م حوالي 81 % في حين لا يشكلون اليوم سوى حوالي 43 %. في ظنهم أن العودة إلى عقيدة دينية واحدة سيعيد الوحدة الآيلة للتشظي، ويجنب البلاد الانهيار المجتمعي، ويوقف خطاه الحثيثة نحو الحرب الأهلية.
هذا الخطاب الصادم يلامس مخاوف مجتمعية حقيقية، ولكن بالنظر إليه من منظور الدراسات الحداثية للقومية، فإنه يكشف حنينا ساذجا للماضي، يتجاهل الطبيعة المتغيرة والمتنوعة للأمم، ويخاطر بتعميق الانقسامات بدلًا من معالجتها.
الادعاء بوجود هوية أمريكية دينية جامعة هو خيال أقرب إلى الأمنيات وليس الحقائق. لقد بني التماسك الظاهري لتلك الحقبة -حسب بعض المصادر- على الإقصاء القسري وإسكات شرائح واسعة من السكان. تلك الهوية القوية فرضتها قوانين جيم كرو التي شكلت نظاماً شاملاً للفصل العنصري استمر من فترة ما بعد إعادة الإعمار في أواخر القرن التاسع عشر حتى الغيت بفضل حركة الحقوق المدنية في منتصف الستينيات. لم تكن وحدة هوياتية؛ بل هيمنة فرضتها مجموعة بيضاء متحكمة، أخفت بها ظلما عميقا انفجر في الاضطرابات الثقافية في ستينيات القرن الماضي.
لقد ازداد التنوع بالفعل في أمريكا، مدفوعًا بالهجرة والعلمانية، مما ساهم في تصدعات ثقافية. ومع ذلك، فإن الربط السببي بـالتفكك يُبسط الأمور أكثر من اللازم؛ فعوامل مثل التفاوت الاقتصادي والاستقطاب السياسي والإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي تلعب أدوارا متساوية في تعميق الفجوات بين مكونات المجتمع الأمريكي.
يظهر استقراء التاريخ أن المجتمعات المتنوعة يمكن أن تزدهر دون أن تنزلق إلى الفوضى، وتعارض النظريات الحداثية للقومية، التي روّج لها علماء مثل إرنست غيلنر، وبينيديكت أندرسون، وإريك هوبسباوم، رؤية اليمين الأمريكي للهوية كجوهر ثابت وأصيل مرتبط بالعرق والدين.
فغيلنر يجادل بأن الأمم تحتاج إلى ثقافة موحدة لربط الجماعات المتباينة في الاقتصادات الحديثة - وليس السلالات أو المعتقدات القديمة. أما مفهوم أندرسون «للمجتمعات المُتخيلة» فيفترض أن الهوية الوطنية هي نتاج ثقافي، تصاغ من خلال وسائل الإعلام المطبوعة والروايات المشتركة، وليست تجانسًا متأصلًا. في السياق الأمريكي، فإن ماضيها «الموحد» كان بحد ذاته مجرد مظهر خادع؛ فقد حجبت هيمنة المسيحيين البيض في القرن العشرين إقصاءات الأمريكيين الأصليين والأمريكيين الأفارقة والمهاجرين، وانكشفت بفعل حركة مدنية عنيفة لم تهدأ حتى أنهت الفصل والتحكم العنصري.
لذا فمن المشروع القول إن التنوع ليس هو العامل المدمر الذي يخشى منه على أمريكا أو أي مجتمع متحضر، وإنما هو المادة الخام لإعادة تصور المجتمع. تعود الدعوة المعاصرة إلى التوحيد الديني بالمجتمعات الحديثة إلى القبلية ما قبل الحداثة، متجاهلة أن الحداثة تسمح بهويات شاملة - على سبيل المثال، القومية المدنية في فرنسا أو الروابط متعددة الثقافات في أستراليا وكندا، وهو أمر غير ممكن في ظل الهوية العرقية الدينية المسيطرة. إن فرض عقيدة واحدة قد يؤدي إلى مزيد من التصدع، كما حذّر غيلنر: فالتحديث يتطلب المرونة، لا الجمود.
تقدم المصادر القديمة خلاصة تجاربها وآرائها بشأن الوحدة في ظل التنوع، مما يُخفف حدة قلق المحافظين الأمريكيين المتشائمين.
أرسطو، في كتابه «السياسة»، يؤكد على أهمية الانسجام المدني (الهومونويا) للمدينة، ولكن ليس من خلال التماثل - بل من خلال السعي المشترك لتحقيق الصالح العام، حيث تسهم الطبقات وتكامل الأدوار المتنوعة في الاستقرار، محذرا من الإفراط في التوحيد القسري، واعتبره جوقة متنافرة، وأن أنانية الطبيعة البشرية هي التهديد الحقيقي للوحدة، مع إمكانية ترويضها من خلال التعليم والقوانين، وليس الإقصاء. وصور أفلاطون في كتابه «الجمهورية» دولة المدينة المتناغمة على أنها دولة مثالية، لكنه أكد على حتمية التنوع، داعياً الملوك الفلاسفة إلى التوسط في النزاعات بدلاً من فرض عقيدة واحدة، وهو حقيقية ما يفتقده المجتمع الأمريكي حاليا، فلا ملوك فلاسفة ولا حكام قادرون على توحيد الصف بقدر براعتهم في تعميق الانقسام.
أما شيشرون، فيعكس البراغماتية الرومانية في كتابه «في شأن العامة»، حيث أشاد بدمج الشعوب المهزومة في المواطنة، وتعزيز الولاء من خلال القوانين والفضائل المشتركة - وليس النقاء العرقي أو الديني، لقد صمدت إمبراطورية روما بفضل تعايش الثقافات المتنوعة، ولم تنهر إلا عندما طغت الانقسامات الداخلية على هذا التنوع، وهو ما تخشاه أمريكا اليوم.
إن التحدي الحقيقي للقرن الحادي والعشرين لا يكمن في إحياء ماض متخيل، بل في صياغة هوية جديدة متطلعة للمستقبل، قوية بما يكفي للحفاظ على ديمقراطية متنوعة. هذه دعوة إلى بناء ما يسميه الفيلسوف السياسي يورغن هابرماس «الوطنية الدستورية» التي تعتبر شكلا من أشكال الانتماء الوطني لا يقوم على الدم أو العقيدة المشتركة، بل على الالتزام المشترك بمبادئ الديمقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان العالمية المكرسة في دستور سياسي. إنه حل حديث لمشكلة معاصرة يفاقم منها تمكن اليمين المتطرف من الديموقراطيات الغربية.