د. سطام بن عبدالله آل سعد
تُعَدّ التنمية الأمنية المستدامة من المفاهيم الحديثة التي بدأت تجد طريقها في الفكر التنموي العالمي، رغم أن جذورها ممتدة في كل تجربة حضارية نجحت في بناء أمنٍ طويل الأمد متوازن مع التنمية.
وقد تعددت التعريفات الأكاديمية القريبة من هذا المفهوم، فهناك من أطلق عليها «الأمن المستدام» (Sustainable Security)، والذي يُعرَّف بأنه نهج شامل للأمن يُعطي الأولوية لرفاهية الإنسان والكوكب على المدى الطويل، من خلال معالجة التهديدات المباشرة وأسبابها البنيوية في النظم البيئية والاقتصادية والاجتماعية. ويرى باحثون آخرون أن الأمن المستدام يعني الانتقال من مرحلة رد الفعل تجاه التهديدات إلى مرحلة الوقاية وبناء القدرة على الصمود (Resilience)، بينما يربطه آخرون بالهدف السادس عشر من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، المعني بـ»السلام والعدالة والمؤسسات القوية»، باعتباره ركيزة لا يمكن لأي دولة أن تحقق تنمية شاملة بدونها.
ومن خلال بحثي وقراءاتي في الاتجاهات العالمية وتجارب الدول في الأمن والتنمية، يمكنني القول إن التنمية الأمنية المستدامة هي رؤيةٌ أمنيةٌ شاملة تدمج بين الاستقرار الأمني وحماية الإنسان والمكان ضمن منظومةٍ متوازنةٍ تراعي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتكنولوجية، بما يضمن تحقيق جودة الحياة وتعزيز قدرة الحكومات والمجتمعات على الصمود والتجدد أمام التحديات المتغيرة، واستبصار المتغيرات المستقبلية دون الإضرار بحقوق الأجيال القادمة أو المساس بفرصهم التنموية.
فهي أمنٌ مستدامٌ يُدار بعقلٍ استراتيجيٍّ يرى المستقبل، ويستبق الأخطار قبل وقوعها، ويجعل من الأمن مُمكّنًا أساسيًا لجميع عمليات التنمية والنمو.
إنّ التنمية الأمنية المستدامة هي الركيزة الجوهرية للتنمية الشاملة، والتي تقوم عليها جميع عمليات البناء والتقدم. فمن دون أمنٍ مستقرّ، لا يمكن للتنمية الاقتصادية أن تزدهر، ولا للبيئة أن تُصان، ولا للمجتمع أن ينمو في إطارٍ من الطمأنينة والعدالة. إنها القاعدة التي يُبنى عليها كل استثمار، والظلّ الذي تحتمي به كل تنمية. فالأمن هو ضرورة وجودية، وشرط أول لكل مشروع وطني يتطلع إلى المستقبل بثقة واستقرار. وفي المفهوم التقليدي، يُنظر إلى الأمن باعتباره وسيلة لحماية الحدود أو فرض النظام، لكن في الرؤية الحديثة، الأمن يُعدّ أصلًا تنمويًا واستثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد. فهو يخلق بيئة جاذبة للاستثمار، ويعزز ثقة المواطن في مؤسساته، ويمدّ جسور الاطمئنان بين القيادة والمجتمع. وكل خطة اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية لا يمكن أن تُبنى بمعزلٍ عن رؤية أمنية شاملة ومستدامة، تواكب التحولات التقنية، وتوظف الذكاء الاصطناعي وأنظمة المراقبة والتحليل التنبؤي في خدمة استقرار الإنسان والمكان.
تقوم التنمية الأمنية المستدامة على أربعة أبعاد مترابطة تشكّل أعمدة الاستقرار الشامل؛ فالبعد الاقتصادي يُرسّخ حماية الاستثمارات والبنية التحتية الوطنية ويحدّ من المخاطر الجيوسياسية، مما يعزز الثقة في الأسواق المحلية والعالمية. أما البعد الاجتماعي فيُسهم في تنمية روح الانتماء والحدّ من الانحرافات، وتعزيز الوعي المجتمعي بقيم المواطنة والمسؤولية. ويأتي البعد البيئي ليحمي الموارد الطبيعية من التعديات، ويحافظ على سلامة المدن الذكية والمناطق الحيوية، فيما يمثل بُعد جودة الحياة الثمرة الأسمى للأمن المستدام، إذ لا يمكن الحديث عن رفاهية أو صحة أو تعليم في بيئة مضطربة؛ فالأمن هو منبع الطمأنينة الذي يتيح للإنسان أن يعيش ويُبدع ويُنتج.
وحين نتحدث عن رؤية المملكة 2030، فإننا نتحدث عن مشروعٍ وطنيٍّ يقوم على أمنٍ راسخٍ ورؤيةٍ مستقبليةٍ بعيدة المدى. فالرؤية لا تقتصر على النمو الاقتصادي أو خفض معدلات البطالة فحسب، بل تمتد لتشمل الأمن الفكري، والأمن السيبراني، والأمن الغذائي، والأمن المائي، والأمن البيئي، وغيرها من مرتكزات الأمن الشامل. ومن هذا المنطلق، تُعدّ التنمية الأمنية المستدامة رؤيةً وطنيةً متكاملة، تسعى إلى ترسيخ نموذجٍ أمنيٍّ مرنٍ يواكب التحولات، ويحتوي المخاطر دون أن يقيّد الحريات أو يعرقل التنمية.
وحين تضع المملكة خططها التنموية، فإن أول ما تُبنى عليه هو الأمن، بوصفه الأساس الذي يُمكّن من استقرار الأنظمة والسياسات عبر الأجيال، وحماية البيانات والمعلومات الحيوية، وصون مؤسسات الدولة من الأخطار الداخلية والخارجية، وتعزيز الابتكار والإبداع في بيئةٍ آمنةٍ ومستقرة. إنها منظومة تتجاوز منطق ردّ الفعل إلى صناعة التوازن بين الوقاية والتطوير والمرونة والاستمرارية، لتجعل من الأمن جزءًا من نسيج الحياة اليومية، لا مجرد استجابةٍ ظرفية.
التنمية الأمنية المستدامة هي الضرورة الأولى لبقاء الدول وازدهارها، فمنها تنبع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وعليها تُبنى جودة الحياة التي تطمح إليها كل رؤية وطنية. إنها الضمانة الكبرى لأن تبقى الدولة قوية، والمجتمع مطمئنًا، والتنمية مستمرة لا تنقطع مهما تغيّرت الظروف. فالأمن هو أول التنمية… وآخرها.