ناصر زيدان التميمي
لا شيء يكشف معادن الناس كالمحنة، ولا شيء يختبر صدق الأصدقاء مثل الشدة. هذا هو المعنى العميق الذي يحمله بيت الإمام الشافعي الخالد:
«جزى الله الشدائد كل خير
وإن كانت تغصصني بريقي
وما شكري لها حمداً ولكن
عرفت بها عدوي من صديقي»
هذا البيت ليس فقط أبيات شعر، بل هو فلسفة حياة. إنها دعوة صادقة للشكر على ما نكره، ليس لأنه مؤلم، بل لأنه يكشف لنا ما لم نكن لنراه في زمن الرخاء.
في أوقات الرخاء، يكون العالم مزينًا بألف قناع. الكل يبتسم، والكل يثني، والأيدي تصافح بحرارة. قد لا يكون من السهل التمييز بين الصديق الحقيقي الذي يشاركك الفرح، وبين المتملق الذي يسعى لمصلحة. هنا يأتي دور الشدة، فهي كالعاصفة التي تجرف الأوراق اليابسة، لتبقي على الجذور القوية المتينة. عندما تقع في أزمة، ويشتد بك الكرب، ستجد أن بعض الأيدي التي كنت تظن أنها ستمتد إليك، قد انسحبت في صمت. ستكتشف أن بعض الوعود كانت مجرد كلام، وأن بعض الابتسامات كانت مجرد قناع. وفي المقابل، ستجد من يمد يده إليك دون تردد، من يقف بجانبك دون أن تطلب، ومن يشاركك همك كأنه همه. هؤلاء هم الأصدقاء الحقيقيون، الذين صنعتهم المواقف، لا الكلمات.
قد يبدو غريبًا أن يشكر المرء ما يؤلمه، فالشدائد «تغصصني بريقي»، أي أنها تمنع عنه حتى أبسط الأمور وتسبب له ألمًا بالغًا. ولكن الشافعي لا يشكر الشدة على الألم الذي سببته، بل يشكرها على «الهدية» الثمينة التي جاءت معها: الوعي والوضوح. هذه المعرفة ليست معلومة عابرة، بل هي درس لا ينسى. إنها تبني فينا حكمة عميقة، وتجعلنا أكثر حذرًا في اختياراتنا المستقبلية. تعلمنا كيف نثق، ولمن نمد أيدينا، وكيف نميز بين الصدق والزيف.
إنها تجعلنا نقدر الأصدقاء الحقيقيين أكثر، لأننا عرفنا قيمة وجودهم في أحلك الظروف.
إن هذا البيت يعلمنا أن ننظر إلى الشدائد ليس كعقوبة، بل كفرصة. فرصة لنرى من حولنا على حقيقتهم، فرصة لنتخلص من العلاقات السامة، وفرصة لتقوية روابطنا مع من يستحقون. فجزى الله الشدائد كل خير، لأنها أضاءت لنا الطريق في ظلمة العلاقات الزائفة، وكشفت لنا عن الأصدقاء الذين لم نكن لنراهم لولاها.