مرفت بخاري
في هذا الركن الهادئ يطيب لنا أن نسلط الضوء على نجم رحل وترك لنا طيب الأثر وترك بصمة لكل إنسان يرى أن الحياة لم تنصفه، وبأنه يعجز عن رسم طريق الفلاح؛ لأنه لم يحظَ بمقومات النجاح ولم يتخرج من جامعات عالمية ولم يرث من والديه أرصدة بنكية تضمن له رخاء المعيشة، فيتكبل بالعجز ويخذله المستقبل فلا مكان للكسل ولا مكان للانهزامية في معارك الحياة، فالحياة تُهدى لمن عاش بهمة وصنع من ظلمة الحاجة نوراً مشعاً بالأمل والإنجازات، ولعلنا هنا في هذه الزاوية المباركة نسلط الضوء على شخصية تستحق أن تكون نبراساً لكل شبابنا وملهماً لجيل المستقبل، ففي صمت الفجر، كان الشيخ عبدالله بن إبراهيم السبيعي يفتح يومه كما يفتتحه المؤمنون الذين لا ينسون أن النية هي أول باب للرزق. لا يهوى الأضواء، ولا يطلب من الناس شكرًا، كان يقول: «ما نفعله لله، لا نحتاج أن نُذكَر به».
من بسطته الصغيرة في مكة إلى أعمدة الاقتصاد السعودي، كانت قصته حكاية رجل بدأ من الصفر، لكنه لم ينسَ يومًا أن وراء كل نجاح مسؤولية تجاه الناس.
وُلد الشيخ عبدالله السبيعي عام 1923 في عنيزة، ثم انتقل إلى مكة المكرمة باحثًا عن رزقٍ يبارك الله فيه. عمل في مجالات عدة، بدأ بتجارة المنسوجات والمواد الغذائية ثم الصرافة ومن التجارة إلى المقاولات، حتى صار من أبرز رجال الأعمال في المملكة. لكنه ظل يرى أن المال وسيلة لا غاية.
حين بدأ ينشئ المشروعات، كانت يداه تعملان في السوق، ويده الأخرى تمتد إلى الفقراء والطلاب والأرامل في صمت. أسس مؤسسة عبدالله السبيعي الخيرية عام 1971م، لتكون امتدادًا لقلبه الواسع الذي لم يتوقف عن العطاء حتى بعد رحيله.
لم يكن الشيخ يكتفي بالصدقات، بل كان يؤمن أن التنمية هي الصدقة الجارية الكبرى. دعم التعليم، وبنى المراكز الصحية، وساهم في مشروعات المياه والمساجد داخل المملكة وخارجها.
حين يُذكَر اسمه اليوم، يبتسم كل من عرفه ليس لأنه كان ثريًا، بل لأنه كان إنسانًا يزرع أثره حيث لا يراه أحد.. يبقى الشيخ عبدالله السبيعي مثالًا للرجل الذي علّمنا أن الثراء الحقيقي لا يُقاس بما نملك، بل بما نهب.
لم يكن يحمل شهادات عليا، ولا يسعى إلى الأضواء، لكنه بنى مدرسة من القيم، لا تزال تلهم كل من أراد أن يتعلّم معنى الإنسانية في صمت.
من سيرته نتعلّم أن البساطة لا تُناقض العظمة.
كان يعيش كما يعيش عامة الناس، يجلس بينهم، يسمع شكواهم، ويواسيهم كما لو كان واحدًا منهم.
لم تُغيّره الثروة، بل جعلت قلبه أوسع، ويديه أكرم.
علّم الجيل أن الغنى ليس في الأرصدة، بل في النية الطيبة التي تحوّل المال إلى بركة.
ومن دروسه أيضًا أن الخير لا يحتاج إعلانًا.
فقد أنفق عمره في العطاء دون أن يعرفه الإعلام، وكأنّه يؤكد أن النية الخالصة تُغني عن التصفيق، وأن الله وحده هو الشاهد على العمل.
كان يقول في صمته: «إذا أعطيت، فامنح بوجهٍ مبتسم لا بيدٍ متعالية.»
تعلمنا منه أن النجاح بلا إنسانية إنجاز ناقص.
فما قيمة التجارة إذا لم تُنقذ بها أسرة؟
وما جدوى المال إن لم يُترجم إلى دفءٍ في بيت محتاج؟
لقد حوّل الشيخ عبدالله السبيعي فلسفة العطاء إلى أسلوب حياة، وربط بين «العمل» و«القيمة»، وبين «الربح» و«الرحمة».
ولجيل اليوم، الذي يطارد أحلامه بين الشاشات والمشاريع، يقول لنا إرث السبيعي: «اصنع مجدك، لكن لا تنسَ أن تترك أثرًا يذكّرك به الناس بخير.»
فالعمر قصير، لكن الأثر طويل، ومن سار في طريق الخير، مضى وإن رحل، بطيب الأثر.
رحم الله شيخنا وطيب ثراه وخلد ذكراه كنجم من نجوم الوطن الخالدة ونبراس وإلهام لكل من ضاقت أيامه وقلت حيلته.