عبدالوهاب الفايز
حين تشاهد حواراً في (بي بي سي) البريطانية، وربما في غيرها، مع زعيم درزي وخلفه العلم الإسرائيلي، ثم يأتيك بالأخبار من يقول إن حكمة الهجري خاطب أمين عام الأمم المتحدة يخبره أن (جبل العرب) أو (جبل الدروز) يجب ان يستبدل بمسمّاه العبري الأصلي: (جبل الباشان)! أيّ تصعيد وتحد يرغب أن يذهب إليه، هل خرجت من دمه ووجدانه العروبة والتاريخ ورائحة تراب الجبل!
يقول رسول حمزاتوف على لسان أبطاله «الجبليون يعرفون غلاء التراب، فقد هبط القرية ضيفا من (موموخ)، وأهدي له كل ما اشتهاه، لكنهم قبل رحيله أجبروه على أن ينفض التراب عن جزمته. وقال الجبليون آنذاك: «التراب لا يُهدى، فنحن أنفسنا يعوزنا التراب. فإذا ما حملوه على جزَمهم، فأين نزرع قمحنا؟». من (رواية داغستان بلدي). كيف يُهدي الهجري الجبل كله إلى الصهاينة!
الأمر المزعج للوجدان العربي رؤية صورة لرمز درزي وخلفه علم الكيان الصهيوني، فهذا لن يكون مشهدًا عابرًا في زمنٍ عابر مزدحم بالصور. شيخٌ درزيٌّ بملابسه التقليدية، وخلفه علم إسرائيل إلى جانب علم الطائفة الدرزية، لقطة استفزازية للمشاعر العربية والإسلامية، وتأتي في حقبة تتفجر فيها المآسي في فلسطين، نتنياهو يطرح مشروع إسرائيل الكبرى، وتزداد فيها حساسية الشعوب العربية لكل من يُظهر أي شكلٍ من أشكال التطبيع الرمزي مع الاحتلال. مثل هذه الصور وحدها كانت كافية لفتح النقاش: هل يدرك أي رمز درزي معنى أن يضع علم إسرائيل خلفه؟ وهل تتكامل هذه الرمزية مع خطاب حكمة الهجري الموجّه إلى الأمم المتحدة، حين استبدل اسم جبل العرب أو جبل الدروز بمسمّى (جبل الباشان)، وهو اسم توراتي ارتبط في النصوص اليهودية بمنطقة الجولان باعتبارها «أرض الميعاد»؟ الصور التي تظهر العلم الإسرائيلي و الخطاب للأمم المتحدة يكشف تحوّلًا رمزيًا خطيرًا، يذهب أبعد من الخطأ البروتوكولي، إلى محاولة إعادة تعريف الهوية الجغرافية والتاريخية للجبل، وإدخالها في سردية توراتية تُستخدم اليوم لتبرير الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري المحتل.
حين توجّه شخصية درزية دينية رسالة إلى الأمم المتحدة مستخدمًا لغة توراتية في توصيف الجغرافيا السورية، فهي لا تمارس التعبير الديني فحسب، بل تنقل المعركة من فضاء الوطن إلى فضاء الرموز الدينية والسياسية العالمية. وهذا الفعل يحمل رمزية سياسية، وهناك أصوات عديدة - بالذات الدرزية - تراه دلالات استقواء بمرجع خارجي على الدولة والمجتمع، ومحاولة لتوظيف اللغة الدينية لإعادة رسم الانتماء الوطني.
إنه نهجٌ يتناقض مع تاريخ الدروز، الذين كانت هويتهم الروحية مقرونة بالانتماء الوطني العربي لا بالاستعانة بكيانات أجنبية أو نصوص توراتية.
ومن هنا، فإن ما يفعله الهجري اليوم بتبني مصطلح (جبل الباشان)، يشكّل تحولا رمزيًا خطيرًا عن ثوابت الطائفة، ويهدّد بإقحامها في لعبةٍ سياسيةٍ معقّدة في زمنٍ يعاني فيه الإقليم أصلًا من هشاشة التوازنات.
تاريخ المنطقة يعلّمنا أن القوى الغازية كانت تبدأ دائمًا من اختراق الأقليات، عبر استقطاب شخصيات منها لتصبح أداة لتفكيك الجبهة الداخلية. منذ القرن التاسع عشر، طبّقت الإمبراطوريات الأوروبية سياسة «فرّق تسد»، فاستغلت الأقليات تحت شعارات «الحقوق والحماية» لتبرير التدخل والسيطرة.
ديفيد فرامكين في كتابه A Peace to End All Peace ذكر أن رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل، في مرحلة إعادة توزيع النفوذ بعد سقوط الدولة العثمانية، كان يبحث عن توازن سياسي وديني يحمي مصالح بريطانيا من دون أن يظهر وكأنه احتلال مباشر. فقام عمليًا بتوزيع (رعاية الأقليات) بين القوى الأوروبية (الفرنسيين للكاثوليك والمارونيين، البريطانيين للدروز واليهود جزئيًا، الروس للأرثوذكس سابقًا)، ثم سمح ضمنيًا أو شجع الولايات المتحدة على أن تلعب دور الراعي للمؤسسات البروتستانتية في المشرق، مستفيدًا من الحضور التبشيري الأمريكي القائم في سوريا ولبنان وفلسطين منذ القرن التاسع عشر.
وفي فلسطين، استخدم اليهود الصهاينة الأسلوب ذاته مع بعض الشخصيات الدرزية، فصوّروهم كـ»حلقة وصل محايدة»، بينما كان الهدف عزل الدروز عن العرب والفلسطينيين وتوظيفهم في بناء شرعية الاحتلال. (تابع الحوار المهم مع الأكاديمي والمؤرخ العروبي الدرزي سعيد نفاع في بودكاست اثير، والذي يكشف كيف تأمرت قيادات الصهاينة لأجل شق الصف الدرزي وخلقوا مفهوم «الخصوصية الدرزية» عندما اكتشفوا الموقف العروبي القوي للدروز).
وما يفعله الهجري اليوم يعيد إلى الأذهان نمط الاستقواء بالاحتلال نفسه: تقديم الطائفة بوصفها كيانًا مستقلًا أو «جسرًا دينيًا» بين العرب والإسرائيليين. لكن هذا النمط لم ينجح في الماضي ولن ينجح، لأن الطائفة التي قاومت الفرنسيين والبريطانيين والصهاينة لا يمكن أن تُختزل في صورةٍ أو خطابٍ منحرف.
هذا التكتيك لم يكن حكرًا على الاستعمار الغربي، بل مارسته قوى إقليمية أيديولوجية أيضًا. بعد الثورة الإيرانية عام 1979، استخدم الخميني مبدأ «تصدير الثورة» لتوسيع النفوذ الإيراني عبر الأقليات المذهبية في العالم العربي. رفع شعار «الوحدة الإسلامية» بينما كانت سياساته الفعلية تُعمّق الانقسام الطائفي وتُحوّل الأقليات إلى أدوات صراع في حروب الوكالة. النتيجة كانت مأساوية: الأقليات نفسها دفعت الثمن، إذ تحوّلت مجتمعاتها إلى ساحات صراعٍ بين الولاءات المتضاربة. وما نراه اليوم في بعض مناطق سوريا والعراق ولبنان واليمن دليل على أن أي مشروع يستغل الهوية الطائفية لتحقيق مكاسب سياسية خارجية، يبدأ بشعار الحماية وينتهي بالخراب.
الدرزي في الوجدان العربي ليس أقلية منغلقة، بل جزءٌ أصيل من النسيج الوطني العربي. من سلطان باشا الأطرش إلى كمال جنبلاط، ظلّ الدروز رمزًا للكرامة والنزاهة والوطنية، يقاتلون دفاعًا عن الأرض لا عن الطائفة، وينادون بالحرية لا بالانعزال. لذلك فإن الخطاب الذي بعثه الهجري للأمم المتحدة، بلغة تحمل دلالات توراتية، لا يمثل الوجدان الحقيقي للطائفة الدرزية، بل هو خروج فردي لا يعبّر عن الضمير الجمعي الذي تربّى على أن العروبة ليست خيارًا سياسيًا بل قدرًا وجوديًا.
تأتي هذه التحركات في مرحلةٍ إقليمية شديدة الاضطراب: سوريا ما زالت تعاني من بقايا انقسامٍ سياسي ومجتمعي، والجولان ما زال تحت الاحتلال، والمنطقة كلّها تشهد محاولات لإعادة رسم الخرائط والتحالفات. وفي مثل هذه الظروف، يكون أي خطابٍ رمزيّ صادر عن زعيمٍ طائفي - خصوصًا إذا تضمن إشارات إلى التوراة أو رموز الاحتلال - مادة جاهزة لتفجير حساسياتٍ جديدة، وإضعاف موقف الدولة السورية، وتشويه تضحيات أبناء الجبل الذين حملوا راية العروبة منذ قرن. إنّ اللغة الرمزية ليست بريئة، و»جبل الباشان» ليس مجرد استعارة دينية؛ إنه مصطلح استعماري يُستخدم لإعادة تأويل الجغرافيا السورية ضمن الرواية الإسرائيلية، وإذا استُخدم على لسان زعيمٍ روحي عربي، فإنه لا يمسّ فقط ذاكرة الجبل، بل يمسّ الوعي العربي بأسره.
يبقى القول إن الصور والخطابات ليست سوى عرضٍ مؤقتٍ لأزمةٍ رمزية يعيشها الشرق العربي، حيث تختلط الأديان بالسياسة، وتُستغل الهويات في رهاناتٍ عابرة. لكن التاريخ أعمق من الصور، وأقوى من الخطابات. التاريخ يؤكد الدروز الذين حملوا رايات الثورة في وجه الفرنسيين، وشاركوا في مقاومة الاحتلال في فلسطين ولبنان، لن يفرّطوا بإرثهم مقابل لحظة استقواءٍ عابرة أو خطابٍ مصاغ بلغةٍ أجنبية عن وجدانهم. لقد استخدمت القوى الغازية - من نابليون إلى نتنياهو - سياسة استقطاب الأقليات، لكنها لم تنجح يومًا في جعل طائفةٍ أصيلة تُنكر عروبتها أو تُسلّم رايتها للمحتل. وسيكتشف الشيخ الهجري، عاجلًا أم آجلًا، أن من يستقوي بالعدو سوف يخسر حلفاءه قبل أن يخسر تاريخه، وأن الكرامة التي حفظها الجبل لأهله منذ قرون لا تُباع للأمم المتحدة، ولا تُشترى بعلمٍ مرفوعٍ خلف الكاميرا.