صالح الشادي
بينما كنتُ أتابع الزيارة الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب للشرق الأوسط، -والتي استمرت ليوم واحد - بعيداً عن متاهات السياسة وتعقيداتها، استوقفتني ظاهرة إنسانية لافتة: طاقة جسدية وعقلية فائقة يبديها رجل في السابعة والسبعين من عمره.
تخيلوا هذا المشهد: رحلة طيران طويلة عبر القارات، تليها زيارة مكثفة تبدأ بلقاءات متعددة، ثم خطاب ممتلئ بالتفاصيل السياسية والعاطفية في الكنيست الاسرائيلي، يعقبه مؤتمر صحفي حافل، ثم انتقال فوري إلى مدينة أخرى للقاء قادة جدد، ليشرع بعدها في جولة جديدة من اللقاءات مع عشرات المسؤولين.
الأكثر إبهاراً أنه خلال هذا كله، كان يتوقف للتصوير، يسهب في الحديث، يمزح بعفوية، يجامل بحكمة، دون أن يظهر عليه أدنى أثر للإرهاق.
أضف إلى هذه الصورة بشاشته الواضحة مع كل من قابله، وثناءه العاطر على كل من التقاه، وتواضعه الجمّ الذي لا يخفي كبرياءً عجيباً، وبساطته المعقدة التي تحمل في طياتها عمقاً يستعصي على الفهم.
أنهى جدولاً حافلاً بالإنجازات في يوم واحد فقط، ثم عاد أدراجه إلى بلاده.
وهنا أعترف -وأنا على أعتاب الستين- بأنني شعرت بالتعب والإرهاق لمجرد متابعته عبر الشاشة، أتأمل هذا الرجل المسنّ الذي أمضى جلّ لقاءاته واقفاً على قدميه، بينما كنتُ أنا جالساً في مقعدي مكتفياً بالمشاهدة! يا للسخرية الجميلة! ها هو ذا يصافح ويحادث ويخطب ويتنقل، وأنا أبحث عن زر رفع الصوت في جهاز التحكّم!
كيف يمكن تفسير هذه الظاهرة؟ يبدو أن السر يكمن في تكامل نادر بين عدة عوامل. شخصيته الانبساطية تجعله يستمد الطاقة من التواجد بين الناس، فكل مصافحة وكل حوار يضخان في عروقه مزيداً من الحيوية. قدرته على الحفاظ على هدوئه النفسي وسط هذا الزخم تدل على مرونة عصبية فائقة، وذاكرته القوية تشير إلى مرونة إدراكية استثنائية.
ولا نغفل الدوافع النفسية العميقة، حيث يبدو أن كل خطاب وكل جلسة تصوير تمثل بالنسبة له مصدراً للتغذية الراجعة المعززة للشعور بالتأثير. كما أن التكيف الفسيولوجي مع الضغوط، وتأثير الهرمونات مثل الأدرينالين خلال التواجد تحت الأضواء، يلعبان دوراً محورياً.
وعاد الرجل إلى بلاده، لا بحقيبة دبلوماسية فحسب، بل بحصيلة من النتائج التي أشغلت الرأي العالمي بحضوره الذي لا يخفت. لقد حقق مكاسب سياسية لبلاده، ونجح في طمأنة إسرائيل بأن سمعتها الدولية، التي تآكلت مؤخراً، ستجد في ظل تحالفه ما يعيد بريقها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نسج خيوطاً من الود مع زعماء كانوا حتى الأمس القريب على خلاف معه، محولاً الجفاء إلى مجال للتفاهم. والأهم من منظور رجل الاقتصاد الذي لا يغيب عنه حساب، أنه أطلق مبادرات لبناء غزة وإعمارها بعد الدمار الذي لحق بها، محققاً بذلك معادلة يصعب على غيره تحقيقها: الجمع بين البراغماتية الاقتصادية والمناورة السياسية.
بصراحة، أجد نفسي بين إعجاب واستغراب. إعجاب بقدرة الإنسان على تجاوز ما نظنه حدوداً للطاقة البشرية، واستغراب من هذه الآلية المعقدة التي تدمج بين النفس والجسد. وتضحك نفسي وأنا أتساءل: إن كانت الشيخوخة تأتي بهذه الطاقة، فما أعدل الزمن! وإن كانت الهمة تُقاس بعدد الخطوات لا بعدد الشموع على كعكة العمر، فيا لهذه الخطوات !
إنها ظاهرة تذكرنا بأن عمر الإنسان الحقيقي لا يُقاس بعدد السنوات، بل بقدرات التفاعل بين شخصيته ودوافعه وتركيبه البيولوجي. فالبدن قد يشيخ، ولكن الإرادة تبقى شابة، والهمة تظل فتية. وكما قالوا: ليس العمر ما تضعه في الحياة، بل ما تضعه الحياة فيك.