جانبي فروقة
توجد الرموز (Tokens) في كل مكان، وليس فقط في عالم العملات الرقمية بل في قلب التاريخ الإنساني نفسه، حيث تعود الكلمة الإنجليزية Token إلى أصل قديم يعني العلامة أو الإشارة، وهذا بالضبط ما كانت عليه الرموز دائمًا: رموز تمثّل شيئًا آخر من قطع الطين الصغيرة التي استخدمها البشر قبل آلاف السنين لتسجيل السلع إلى العملات الرقمية والرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) على البلوك تشين فقد تطوّر هذا المفهوم البسيط ليصبح أحد الأعمدة الأساسية في الاقتصاد، والتكنولوجيا، وعلم النفس، واللغة، وحتى الألعاب.
من الطين إلى النقود كانت بدايات الرموز في التاريخ فقد بدأت قصة الرموز في العصور السحيقة حيث اكتشف علماء الآثار أن الناس في بلاد الرافدين بين 7500 و3500 قبل الميلاد كانوا قد استخدموا قطعًا طينية صغيرة لتسجيل المعاملات التجارية و كانت هذه القطع تُشكّل على هيئة مخروط أو كرة أو قرص، وكل شكل منها يرمز إلى سلعة معينة فالمخروط الصغير مثلًا قد يرمز إلى مكيال من الحبوب، وقد كانت تلك أول محاولة بشرية لـ»ترميز» (Tokenization) القيمة بطريقة ملموسة، حيث تتمثل السلع والمجهود والعمل في شكل رموز يسهل عدّها وتداولها ومع مرور الوقت، أصبحت الرموز جزءًا أساسيًا من الإدارة والتجارة في المدن القديمة، إذ كانت توضع داخل أختام طينية كوسيلة لتسجيل الديون أو المخزون. ويُعتقد أن هذا النظام نفسه أدى إلى نشوء الكتابة المسمارية، ما يجعل الرموز أول أداة لتسجيل المعلومات في تاريخ البشرية.
وفي العصور اللاحقة، تطوّر المفهوم إلى فكرة النقود الرمزية (Token Money). فعندما كانت العملات الرسمية نادرة أو مرتفعة القيمة استخدمت المجتمعات بدائل رمزية كالنقود المعدنية الصغيرة التي استعملت في المتاجر في بريطانيا وأمريكا خلال القرنين السابع عشر والتاسع عشر وفي القرن العشرين انتشرت الرموز في وسائل النقل العامة مثل توكينات مترو نيويورك، وهي قطع معدنية صغيرة تُستخدم بدلاً من النقود الورقية فقد كانت هذه الرموز شكلًا من أشكال القيمة المحدودة، لا تعمل إلا ضمن نظام مغلق سواء في المتجر أو محطة القطار، ولكنها مهدت الطريق لمفهوم المال القابل للتمثيل الرمزي.
لم تقتصر الرموز على المال فقط، بل دخلت أيضًا في علم النفس بوصفها أدوات لتعزيز السلوك الإيجابي. ففي خمسينيات وستينيات القرن العشرين، ابتكر علماء السلوك ما يسمى بالاقتصاد الرمزي (Token Economy) حيث يُمنح الأفراد رموزًا مقابل سلوك جيد يمكنهم لاحقًا استبدالها بمكافآت أو امتيازات، وفي عام 1961، أجرى الباحثان تيودورو أيّلون وناثان أزرين تجربة رائدة في مستشفى ولاية إلينوي حيث حصل المرضى النفسيون على رموز مقابل إنجازاتهم اليومية كترتيب أسِرّتهم أو حضور الجلسات العلاجية ثم استخدموها لشراء وجبات أو الحصول على إجازة مؤقتة.
هذا المفهوم البسيط أثبت فاعليته، وانتقل لاحقًا إلى المدارس والمستشفيات ومراكز إعادة التأهيل. فالرمز هنا ليس ذا قيمة مادية بذاته، لكنه يمثل وعدًا بالمكافأة، مما يحفّز الإنسان على الاستمرار في السلوك المرغوب.
واليوم نرى الفكرة ذاتها في أنظمة النقاط والمكافآت في التعليم والتطبيقات الإلكترونية وبرامج الولاء كلها صور حديثة من «اقتصاد الرموز».
وفي اللغة، يُشير مصطلح «رمز» إلى الكلمة أو الوحدة الدلالية التي تعبّر عن فكرة. فكل كلمة هي رمز يمثل شيئًا في العالم. وعندما تطورت الكتابة، أصبحت الحروف نفسها رموزًا مرئية للأصوات والمعاني.
أما في علوم الحاسوب، فـ«الترميز» (Tokenization) يعني تقسيم البيانات إلى وحدات صغيرة تُسمّى رموزًا. فعندما يقرأ الحاسوب نصًا أو كودًا برمجيًا، يقوم بتقسيمه إلى رموز يمكن معالجتها تمامًا كما يقوم العقل البشري بتقسيم الجمل إلى كلمات، وفي أنظمة الأمان، تُستخدم الرموز أيضًا كوسيلة للتحقق، مثل رموز الوصول (Access Tokens) التي تتيح للمستخدم الدخول إلى موقع أو تطبيق دون إعادة إدخال كلمة السر. وهكذا، أصبحت الرموز وسيطًا ذكيًا بين الإنسان والمعلومة.
في عالم الألعاب، تُمثل الرموز شخصية اللاعب أو نقاطه أو ملكياته داخل اللعبة. قطعة الشطرنج أو سيارة المونوبولي أو عملات الألعاب الإلكترونية كلها رموز في عالم مصغّر تحكمه قواعد محددة.
وفي القرن العشرين، ظهرت «توكينات الأركيد» وهي تلك القطع المعدنية التي كنا نحصل عليها مقابل دولار واحد لنلعب في صالات الألعاب فقد كانت وسيلة ذكية لاقناع الزبائن بتحويل نقودهم إلى رموز لا يمكن استخدامها إلا داخل الصالة، ما يدفعهم للعب أكثر والأمر ذاته تم استعماله في كازينوهات القمار، حيث تُستبدل النقود برقائق ملونة (Chips) تمثل المال لكنها تفصل اللاعب نفسيًا عن قيمتها الحقيقية. إنها اقتصادات رمزية مصغّرة، تُحفّز السلوك من خلال رموز مادية أو رقمية.
ومع ظهور البلوك تشين والعملات الرقمية (Blockchain الجزيرة Crypto) ، دخلت الرموز مرحلة جديدة تمامًا حيث أصبحت كلمة توكن Token تُشير إلى وحدة رقمية من القيمة تُسجَّل على شبكة لا مركزية. ففي البداية، قدّم «البيتكوين» فكرة العملة الرقمية، لكنه لم يستخدم مصطلح «توكن» ولكن لاحقًا ومع إطلاق إيثريوم عام 2015، أصبح بالإمكان إنشاء رموز جديدة تمثل أي شيء: حصة في مشروع، حق وصول إلى خدمة، أو حتى عملًا فنيًا رقمياً. وشهد عام 2017 انفجارًا في سوق «الرموز» مع موجة الـICOs (عروض العملة الأولية)، حيث أطلقت الشركات الناشئة رموزًا لجمع التمويل ومن هناك وُلدت أيضًا فكرة الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs) - رموز رقمية فريدة تمثل ملكية أصل رقمي محدد، سواء كان لوحة فنية أو موسيقى أو قطعة أرض افتراضية. ويُعتبر العمل الفني Quantum الذي أنشأه الفنان كيفن مكوي عام 2014 أول NFT في التاريخ ما مهد الطريق للثورة الرقمية في سوق الفن والملكية.
اليوم، لا تقتصر الرموز على الأعمال الفنية، فقد انتقل المفهوم إلى ترميز الأصول الواقعية مثل العقارات والأسهم والسندات. يمكن مثلًا تقسيم مبنى واحد إلى 1000 رمز رقمي، بحيث يمتلك كل مستثمر جزءًا صغيرًا منه يمكن تداوله بسهولة.
وقد علّق لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة BlackRock بلاك روك بأن «كل أصل يمكن ترميزه»، معتبرًا أن هذا التحول سيُحدث ثورة في عالم الاستثمار ويجعل الأسواق مفتوحة على مدار الساعة دون وسيط أو تأخير في التسوية.
من خلال تتبع هذا المفهوم عبر العصور نكتشف أن الرموز هي أداة الإنسان في تمثيل المعنى والقيمة.
فقد حوّل المزارعون في سومر الحبوب إلى رموز طينية، وحوّل علماء النفس السلوك إلى رموز تحفيزية، وحوّل المبرمجون اللغة إلى رموز رقمية، واليوم نحول الأصول إلى رموز رقمية على شبكات البلوك تشين.
إنها فكرة واحدة بأشكال لا حصر لها: استخدام الرموز لتبسيط الواقع، وجعل القيم قابلة للتمثيل والتداول. من الطين إلى البِت، ومن الحقول إلى الفضاء الرقمي، يبقى الـ»توكن» شاهدًا على عبقرية الإنسان في خلق أدوات للتمثيل والتبادل.
لكن تبقى الحقيقة الجوهرية: قيمة الرمز من قيمة ما يُمثله، فإذا انقطعت الصلة بين الرمز والواقع، يفقد الرمز معناه.
كما حدث مع بعض العملات الرقمية الزائفة أو المشاريع الوهمية، ومع ذلك تبقى الرموز فكرة خالدة مرنة، ومتحوّلة، ومستمرة في إعادة تشكيل الاقتصاد والمعرفة والتكنولوجيا.
في النهاية، سواء كانت قطعة طين سومرية، أو نجمة ذهبية في دفتر طفل، أو رمزًا رقمياً على شبكة بلوك تشين فإنها جميعًا تؤدي الوظيفة نفسها: تحويل القيمة والمعنى إلى شكل ملموس يمكن تبادله.
وهذا ما يجعل فكرة «الرمز» بكل تجلياتها من أعمق وأقدم وأجمل الاختراعات في تاريخ الإنسان.
** **
- كاتب أمريكي