د. محمد بن غالب البقمي
يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
وقيَّدتُ نفسي في ذُراكَ محبّةً
ومَن وجدَ الإحسانَ قَيْدًا تقيَّدَا
قد يبدو البيت في ظاهره مديحًا عابرًا بالوفاء، أو لحظة دفق وجدانية بالكرم، غير أنه في عمق الدلالة أقرب إلى دستور إنساني؛ إذ يجعل من الإحسان رباطاً لا تُفك عُراه، وقيداً كريماً يُشدّ على قلوب الأحرار، فيسمو بالنفس فوق نزعات الجحود، ويصون المروءة، ويُعلي منازل الأوفياء.
لكن هذه الحقيقة البهية تبتلى في واقع الناس بحوادث تُكدِّر صفاءها. فالإحسان إذا جُحِد، وحُجِبَ ضياؤه، أظلمت سريرةُ الجاحد، وبدت على ملامحه أماراتُ ضعفِ الوفاء وضيقِ التقدير. وإذا جَرؤ أحدُهم على ذمِّ المُحسِن بعد إحسانه، انكسرت مرآةُ المروءة، وتكدَّرت النفوس بما يعلَق بها من غُبرةٍ لا تليق بأهل الفضل.
ويأتي الوجه الأخفى: حين يُنسى الفضلُ لهفوةٍ عابرة، أو لما تُوهِّم أنّه جفاء؛ فذلك تسرّعٌ مذموم، يُعشي الأبصارَ عن تبصّر الأعذار الكامنة، ويُعجّل بقطع خيوط الصفاء قبل أن تُختبر.
وربما كان وراء الغياب عُذرٌ مُحجوب، خَفِيٌّ، أو خلف ما يبدو جفاءً ظرفٌ قاهر؛ غير أنّ العَجَلة ـ وهي أمّ الندامة ـ تُحوّل الإحسان إلى سوء الظن، وتستبدل الرحابة بجدارٍ من التوجّس.
ومع ذلك، يبقى المُحسِن سامقًا بإحسانه، لا تُنقِص من قدره غفلة، ولا نزق ناكر أو صبوة جاحد، شامخاً بعطاء، هو قَيْدٌ من ذهبٍ على القلوب الحرّة؛ وطوق عز في أعناق أهل الكرم والنخوة، قَيْدٌ لا يُثقِلها بل يرفعها، وطوق لا يحبسها بل يحرّرها من سُخف الجحود وضيق الأنانية. إنّ الوفاء للإحسان امتحانٌ للقيم، وميزانٌ لصدق المروءة، ومرقى في مدارج الكرامة الإنسانية.
وهنا تتلاقى حكمةُ المتنبي مع ومضة شاعرٍ آخر هو كامل الشناوي الذي صاح من أعماقه: «... قَيْدًا حلفتُ العُمرَ ألا أكسرهُ، أأقولُ هانت؟ أأقولُ خانت؟»
والذي يعنينا في هذا البيت ـ بعيداً عن سياقه العاطفي ـ هو الفكرةُ الجوهرية: أنّ القَيْد إذا كان قَيْدَ محبّةٍ أو إحسانٍ صادق، غدا عهداً لا يُكسر، وميثاقًا لا يُنقض، ورباطاً أسمى من الميول العارضة، فالمتنبي والشنّاوي يلتقيان، من منطلقين مختلفين، على معنى واحد: أنّ الوفاء حين يُترجم إلى «قَيْد»، فإنّه لا يغدو أسراً للرّوح، بل تحريرٌ لها، ولا ثِقلاً على القلب، بل تاجٌ على رؤوس أهل المروءة.
إنّ الإحسان إذا غدا قَيْدًا، أصبح أرفع من كل وشيجة، وأبقى من كل عهد، وأكرم على النفوس النبيلة من كل رباطٍ دنيوي؛ وهو في جوهره هندسةٌ خفيّة للنفوس، وحديث الأرواح إلى الأرواح.