د. سامي بن عبدالله الدبيخي
في عالم التخطيط العمراني، حيث تتقاطع الرؤى الفكرية مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية، يبرز كتاب الدكتور عبدالرحمن مخلوف «رحلة العمر مع العمران: نصف قرن مع تخطيط المدن» الصادر عام 2013، كوثيقة حية تجسد تجربة أكثر من نصف قرن من العمل في التخطيط العمراني كخبير فني وكمشرف إداري.
يعتبر الكتاب وثيقة حية تجسد تجربة عمل امتدت لأكثر من نصف قرن في مجال تخطيط المدن إعدادًا وتنفيذًا في كل من مصر والسعودية والإمارات. الكتاب ليس مجرد مذكرات شخصية، بل هو تأمل فكري في رحلة مهنية كما لو كانت سيرة ذاتية للتخطيط ذاته كرسالة اجتماعية، يجيب فيه المؤلف بتفصيل وإيمان عميق على أسئلة جوهرية تتجاوز التقني إلى الإنساني.
يبدأ الدكتور مخلوف بتعريف التخطيط ليس كمجرد أداة تقنية فقط، بل كعملية إعداد فكري يسبق الفعل؛ فهو بهذا يوجه دعوة لإعادة اكتشاف التخطيط ليس كعملية فنية عمرانية أو إدارية فحسب، بل كرسالة اجتماعية ومهمة إنسانية تهدف إلى بناء مجتمعات مستدامة.
وفق هذا المنظور، فإن تخطيط المدن من أكثر مجالات التوجيه الفكري والنشاط الإنساني شمولًا وطموحًا لأنه يتعامل مع البيئة والمجتمع والاقتصاد: يواجه الحاضر ويعد للمستقبل، ويحافظ على التراث أو يعالج مشكلاته.
هذا التعريف ليس نظريًا فحسب، بل مستمد من تجاربه في تخطيط مدينة جدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة في السعودية (1959 - 1963)، وأبوظبي والعين في الإمارات (1968 - 1976). فالتخطيط عنده ليس رسمًا هندسيًا فحسب، بل تشكيل لمنظومة شاملة يتداخل فيها العمراني بالاقتصادي والاجتماعي ليؤثر على كيان الإنسان والمجتمع ونمائهما ماديًا ومعنويًا.
كما يخصص المؤلف جزءًا تفصيليًا للعمليات التي تشكل اتجاهات التخطيط، معتبرًا إياها «تداخلًا مستمرًا بين الإعداد والتنفيذ». من أبرزها: الإنشاء والتطوير المؤسسي، مثل إقامة أجهزة حكومية متخصصة لضمان «استقامة الأمور» وتوازن المصالح العامة والخاصة؛ التنسيق مع الأجهزة ذات الصلة، كالتخطيط المركزي؛ وتفعيل المشاركة المجتمعية.
فكان له دور فاعل في بناء دائرة تخطيط المدن في أبوظبي وإنشاء أجهزة تخطيط حكومية والإشراف على مكتب تخطيط المدن بوزارة الداخلية في السعودية إلى نهاية عقده تاركًا أثرًا لدى زملائه في المكتب على هذا الفراق.
ويؤكد د. مخلوف دومًا أن الهدف الأسمى للتخطيط يكمن في «جعل المدينة بيئة صالحة للحياة العصرية من جميع جوانبها»، مع النظر إلى المستقبل ومتطلباته، دون إغفال معالجة مشكلات الماضي وتبعاته وتحدياته.