عبدالعزيز بن عليان العنيزان
يتبادر إلى أذهان كثيرين تساؤل مهم حول مسار الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي الذي مضى عليها أكثر من ثلاثة عقود، مع الأخذ بعين الاعتبار أن النسق الدولي الحالي لا يزال راضخا لقطبية واحدة رغم المستجدات والتطورات الراهنة في الساحة الدولية. ففي مرحلة باتت بها الصين تتفوق على أمريكا بإمكانات معينة لا تزال توصف بالقوة الصاعدة، ولاسيما بأن مقاييس ومؤشرات ميزان القوى الدولية تشير إلى أن بكين تجاوزت هذه المرحلة بتفوّقها على حليفتها التقليدية موسكو، وأصبحت قريبة من مناصفة القطبية مع واشنطن ما يعني بأن هيمنتها محفوفة المخاطر. وهذا الاستقراء مبني على محددات مفصلية نشرح أبرزها على النحو الآتي:
- الأزمات الاقتصادية المتلاحقة وأثرها السلبي على الاقتصادات العالمية مثل الدخول في حرب تجارية تدل على أن الخلاف لديه أبعاد أوسع من ذلك بكثير نتيجة لقوة الصين في المنافسة الاقتصادية مع أمريكا لسيطرتها المتنامية على العديد من الموارد والمعادن الثمينة وإذا استمرت على نفس المسار فمن المتوقع في غضون سنوات بأن تصبح القوة الاقتصادية الرئيسية في العالم.
- نتيجة لهذا النمو الاقتصادي وتشبث النظام السياسي بالأسس الأمنية والعسكرية التي قامت عليها الصين الشيوعية، أصبحت قواتها المسلحة من أكثر جيوش العالم تقدماً بدمجها للنموذج التقليدي الصيني - الروسي مع آخر ما توصلت إليه من تقنية حديثة في مجالي الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، ما ساعدها في امتلاك أنظمة عسكرية هجومية ودفاعية غير مسبوقة.
- تراجع الدور الروسي عالمياً بسبب انعكاسات الصراع مع أوكرانيا وعدم مقدرته على الاستمرار في المواجهة ضد أمريكا عن طريق الحرب بالوكالة في أقاليم متنوعة، وبالأخص مع خسارتها لبعض الحلفاء بسبب الانقلابات والثورات الشعبية. هذه الظروف تجعل بكين توسع تواجدها الخارجي بطريقة أكثر فعالية من النمط الروسي لأن سياسة ملء الفراغ الصينية لا تقف عند حدود التواجد العسكري لاعتمادها على المنفعة الاقتصادية بشكل أساسي واختيار مناطق تتسم بموقع جغرافي استراتيجي أو لديها وفرة في الموارد الطبيعية أو ستشهد نهضة اقتصادية بارزة.
ومع توافر هذه العناصر التي تحدث عدم اتزان في الخريطة السياسية العالمية ما قد يزيد من احتمالية تغيير ميزان القوى العالمي، إلا أن هناك عوامل مؤثرة تؤدي بطريقة ما إلى إرجاء الانتقال من نظام أحادي القطب إلى مرحلة جديدة في الوقت الراهن. ويمكن ذكرها بالتالي:
- إن إدارة واشنطن لا تزال تمتلك أدوات فعالة تدير من خلالها ملفاتها الخارجية من نظرة أحادية نحو بقية العالم لتدحض أي نواة لفكرة تغيير النظام الدولي القائم. كما أنه على الأرجح تحالفاتها الأمنية مع دول كثيرة تتسم بمقومات اقتصادية وسياسية وجغرافية متميزة لكنها تفتقد للاستقرار الاقليمي، يجعلها تنظر لواشنطن بالقوة العسكرية الحامية لها في حال نشوب صراعات وحروب ما يعني بأن مصالحها مرتبطة مع واشنطن بشكل وثيق ولا يمكن دعم أي قوى دولية مضادة لها بسهولة.
- إن طبيعة النظام السياسي الصيني تحتم عليه عدم تقديم نفسه للعالم علانية كقوة عظمى لوجود بعض المخاوف من الاحتكاك المباشر مع أمريكا. اعتقاداً منه بأنه في حال خسر هذه المواجهة سينتج عنها تغييرات جوهرية في الداخل الصيني أهمها فقدان صفة الاستقرار السياسي، وبذلك من الأفضل لبكين التقيد بسياسة متزنة في الملفات الشائكة مع واشنطن.
- إن قيام روسيا بغزو أوكرانيا وتأجيج الصراع في المشهد السياسي الأوروبي حافظ على الدور الأمريكي المؤثر في حلف الناتو، من ناحية إرغام موسكو على الدخول في حرب محدودة قد تدوم لسنوات ما سيجعل حصتها من ميزان القوى العالمي تنخفض لا محالة.
ومن ناحية أخرى مقدرة البيت الأبيض على المقايضة في استخدامه أو تخليه للمادة الخامسة من معاهدة الناتو، وفي كلتا الحالتين يفاوض على هذه المادة بأسلوب متباين لتعزيز موقفه تجاه حلفائه وأعدائه في آن واحد.
- أصبح ذكر مصطلح الحرب العالمية الثالثة ينتشر بازدياد في الملتقيات والمحاورات المهتمة بالشؤون الدولية وبالذات الغربية منها ما يخلق صورة نمطية لدى الساسة وغيرهم من الأصوات المسموعة في المجتمع الدولي بأن تغيير ميزان القوى لن يحدث إلا بحرب دامية وأممية بطريقة أبشع عما حدث في آخر تغيير للنظام الدولي سنة 1991.
- طبيعة النظام السياسي الأمريكي تجعل الخبراء يظنون عندما يثار هذا الموضوع بأن ما يحصل مجرد مرحلة زمنية مرتبطة بالفترة الرئاسية أي دائماً يروجون لفكرة تقتضي بأن الرئيس القادم سيصحح الوضع وسيحافظ على بقاء أمريكا في قمة النظام الدولي بغض النظر سيكون جمهوريا أم ديمقراطيا.
بعد قراءة هذه المتناقضات حول مآلات الهيمنة الأمريكية على الساحة الدولية، نتوصل إلى نتيجة متباينة حيال مستقبل النظام الدولي، ولكن من أجل الاستخلاص واستبصار واقع العلاقات الدولية القادم نستطيع الإجابة بأن الهيمنة الأمريكية ستستمر في حال قامت بالتحديث المستمر لمؤسساتها السيادية بشتى الأساليب والأنماط العصرية لكي تحد من المخاطر والتهديدات المستجدة في مناطق النفوذ وبؤر الصراع المنتشرة حول العالم، مع إبقاء الدولار أداة مقياس موحدة في النظام الاقتصادي العالمي لحينما تستطيع إعادة هيكلته بما يضمن احتواءه لكافة الأدوات المالية القابلة للتداول العالمي تحت مظلة المؤسسات المالية الغربية.
أما بالنسبة للصين لتحقيق هذه الغاية واعتلاء المشهد السياسي الدولي، يستلزم الأمر المضي قدما في زيادة نفوذها الجيوسياسي بوتيرة أسرع بالذات في الممرات المائية الاستراتيجية لتأمين مصالحها في التجارة العالمية، مع ضرورة استمرارها في النمو في معدل الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك فرض قيم ومبادىء معينة لخلق نموذج صيني من المفاهيم بقالب عالمي مواكب لمنظور العصر الحديث، بحيث تكون قابلة للتطبيق والانتقال بين المجتمعات البشرية. وأخيراً أهمية التوصل إلى إطار عام لتشكيل نظام اقتصادي عالمي جديد عبر بناء تكتلات اقتصادية ناجحة مع حلفائها بخلاف النهج التقليدي الممارس حالياً في منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس.