«الثقافية» - متابعة:
في أمسية احتفائية استحضرت روح الوفاء والمعرفة، أقام مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية مساء أمس محاضرة نوعية بعنوان «جائزة الملك فيصل: سيرة لم ترو»، قدّمها الأمين العام للجائزة الدكتور عبدالعزيز السبيل، وذلك برعاية وحضور صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل رئيس مجلس إدارة المركز، وحضور جمع من المثقفين والأدباء والأكاديميين والإعلاميين الذين امتلأت بهم القاعة في مشهد يليق بمكانة الحدث.
جاءت المحاضرة ضمن البرنامج الثقافي للمركز، وبالتعاون مع جائزة الملك فيصل، في خطوة تؤكد الشراكة المعرفية التي تجمع المؤسستين في خدمة الفكر والبحث العلمي والإبداع الإنساني.
الأمير خالد الفيصل.. القلب النابض للجائزة
استهلّ الدكتور السبيل حديثه بالتأكيد على أن الأمير خالد الفيصل هو «القلب النابض» لجائزة الملك فيصل، وأنه واكبها منذ نشأتها عام 1977م وحتى اليوم، قائداً لمسيرتها بخطى راسخة تجمع بين الرؤية الثقافية والوعي الإنساني.
وأوضح أن الأمير خالد يتابع أدق تفاصيلها التنظيمية والفنية، ويحرص كل عام على زيارة موقع الاحتفال قبل أيام من إقامته؛ ليتأكد من جاهزية جميع العناصر، كما يلقي بنفسه كلمته السنوية في الحفل الختامي.
وأشار السبيل إلى أن هذه الكلمات التي بلغت (43 كلمة في 43 حفلًا) جُمعت مؤخرًا في إصدار توثيقي بعنوان «سجل الكلمات»، يرصد مسيرته الخطابية مع الجائزة، ويُبرز منهجه في الاختزال العميق، إذ باتت كلماته في السنوات الأخيرة لا تتجاوز الخمسين كلمة أحيانًا، لكنها تعبّر بعمق عن روح الجائزة ومقاصدها الإنسانية والعلمية.
وبيّن المحاضر أن هذا الأسلوب الموجز يعبّر عن فلسفة الأمير خالد الفيصل في الحياة والفكر؛ فلسفة تقوم على الدقة والاختصار والجوهر، وهي ذاتها القيم التي تتبناها الجائزة في اختيار موضوعاتها ومحكّميها ومكرّميها.
مواقف خالدة وأبعاد إنسانية
وعرج الدكتور السبيل على عدد من المواقف التي تجسد شخصية الأمير خالد الفيصل وحرصه على المعنى الجماعي للجائزة.
ففي عام 2017م، أعلن فوز خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- بجائزة الملك فيصل لخدمة الإسلام، واصفًا تلك اللحظة بأنها «استثنائية في تاريخ الجائزة».
وفي العام التالي 2018م، روى الدكتور السبيل أن الأمير خالد رفض –قبل يوم من حفل الجائزة– عرض فيلم أُنتج عن مسيرة الجائزة لأنه كان يظهر فيه وحده دون الفائزين، فأمر بإنتاج فيلم جديد يتضمن حضور العلماء والفائزين، وعُرض النسخة الجديدة في الحفل بعد أن نالت رضاه.
وقال السبيل: «هذا الموقف يلخص رؤية الأمير خالد الفيصل، فهو لا يرى الجائزة من منظور شخصي، بل كمنصة علمية جماعية تحتفي بالمنجز الإنساني في كل صوره».
بدايات التأسيس ورحلة الريادة
وأشار السبيل إلى أن الجائزة منذ تأسيسها حرصت على أن تكون جائزة علمية رفيعة المستوى، تقوم على معايير دقيقة ومحددة، ولا تقبل الترشيحات الفردية، بل تعتمد على ترشيحات الجامعات والهيئات العلمية والمراكز البحثية المعترف بها دوليًا.
وأضاف السبيل أن لجان التحكيم في الجائزة تضم نخبة من العلماء المتخصصين من مختلف الثقافات والديانات، وهو ما أكسبها مصداقية عالمية جعلتها اليوم واحدة من أبرز الجوائز الدولية في مجالاتها الخمسة: خدمة الإسلام، الدراسات الإسلامية، اللغة العربية والأدب، الطب، والعلوم.
كما أشار إلى أن عدداً من الفائزين بجائزة الملك فيصل نالوا لاحقًا جائزة نوبل، بينما حصل آخرون على جائزة الملك فيصل بعد فوزهم بنوبل، وهو ما يؤكد المكانة الأكاديمية المرموقة للجائزة والاعتراف الدولي الواسع بقيمتها.
من المحلية إلى العالمية
وتناول الدكتور السبيل دلالات حذف كلمة “العالمية” من اسم الجائزة، موضحًا أن طموحها كان منذ البداية أن تكون عالمية، وبعد أن تحقّق ذلك واقعيًا، لم تعد بحاجة إلى حمل هذا الوصف في اسمها.
وقال: «اليوم، تعد جائزة الملك فيصل مرجعًا علميًا عالميًا، فالفائزون بها ينتمون إلى أكثر من 45 دولة، والجهات المرشحة تشمل أعرق الجامعات والمؤسسات البحثية، وهذا بحد ذاته أكبر دليل على عالميتها الفعلية لا اللفظية».
وأشار إلى أن الجائزة تتميز بتخصّصها الدقيق، إذ يتغير موضوع كل فرع سنويًا لمواكبة المستجدات العلمية والفكرية، ما يجعلها دائمًا على تماس مع حركة التطور المعرفي في العالم.
المرأة في سجل الجائزة
وفي محور آخر، تحدث الدكتور السبيل عن حضور المرأة في مسيرة الجائزة، مؤكدًا أن المعيار الأوحد هو المنجز العلمي وليس جنس صاحبه.
واستعاد أسماء عدد من العالمات اللواتي نلن الجائزة، بدءًا من الدكتورة عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) التي كانت أول فائزة بها عام 1994م عن دراساتها القرآنية، مرورًا بالدكتورات وداد قاضي ومكارم الغمري وكارول هيلينبراند وسوزان ستيتكيفتش، وصولًا إلى العالمة جاكي يي-رو ينغ التي نالت الجائزة عام 2023م، وتعمل حاليًا في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث.
وقال السبيل: «إن حضور المرأة العلمي المتزايد في الجائزة يعكس قناعة المؤسسة بأن التميز لا جنس له، وأن المعرفة ميدان مفتوح أمام كل عقل مبدع».
محطات ثقافية ومشروعات علمية
وخلال المحاضرة، عرض الدكتور السبيل عددًا من الإصدارات والمشروعات التي انبثقت عن الجائزة أو تناولت أعمال فائزين بها، مثل كتاب «الحملات الصليبية: منظور إسلامي» للمؤلفة البريطانية كارول هيلينبراند، وكتاب «رياض الشعراء في قصور الحمراء» للدكتور عبدالعزيز المانع والدكتور خوسيه ميغيل، إضافة إلى مجلة «الفيصل العلمية» ومشروع «مائة كتاب وكتاب» الذي أطلقته الجائزة بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس.
كما أشار إلى أن الفائزين يقدّمون محاضرات علمية في المؤسسات الأكاديمية داخل المملكة وخارجها، بما يسهم في نقل المعرفة وترسيخ التواصل العلمي العالمي.
وأوضح أن الانطلاقة الأولى للأنشطة الثقافية غير المرتبطة بالفائزين كانت من خلال ندوة علمية تناولت سيرة الدكتور عبدالله العثيمين –الأمين العام السابق للجائزة– الذي أسهم في ترسيخ مكانتها الأكاديمية عالميًا.
منتدى الجوائز العربية.. تجربة مشتركة
وتحدث السبيل عن احتفال الجائزة بمرور 40 عامًا على تأسيسها، معتبرًا أنه شكّل محطة لتقييم التجربة واستشراف المستقبل.
وخلال ذلك الاحتفال أُعلن عن تأسيس منتدى الجوائز العربية بمشاركة أكثر من 35 جائزة من مختلف الدول العربية، ليصبح منصة لتبادل الخبرات وتوحيد الجهود في خدمة الثقافة العربية.
وأكد أن هذا المنتدى جاء امتدادًا لروح التعاون التي غرستها جائزة الملك فيصل في العالم العربي والإسلامي، ورسّختها في إطار من الشفافية والمصداقية العلمية.
الجائزة.. منبر عالمي للعلم والمعرفة
وفي ختام محاضرته، أكد الدكتور السبيل أن مرور أكثر من أربعة عقود على الجائزة جعلها تجربة سعودية فريدة تجمع بين الأصالة والمعاصرة، وتؤكد الدور الريادي للمملكة في دعم البحث العلمي والإبداع الإنساني.
وقال إن الجائزة تمضي بثبات نحو توسيع أنشطتها العلمية والثقافية، وتعزيز حضورها محليًا وعالميًا، من خلال التعاون مع مؤسسات البحث الكبرى والجوائز العالمية المرموقة.
وأشار إلى أن فوز العديد من العلماء بالجائزة كان بمثابة منعطف في مسيرتهم العلمية، إذ أتاح لهم فرصًا جديدة ومناصب دولية مرموقة، مما يعكس الأثر العميق للجائزة في المجتمع العلمي الدولي.
واختتم السبيل حديثه قائلًا:
«إن جائزة الملك فيصل ليست حدثًا سنويًا فحسب، بل مشروع حضاري ممتدّ، يُعيد تعريف علاقة العالم بالعلم والإنسانية».
تاريخ الجائزة وأبرز إنجازاتها
تأسست جائزة الملك فيصل عام 1977م بمبادرة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية، وبدأ منحها فعليًا عام 1979م، لتكرّم العلماء والمبدعين الذين أسهموا في خدمة الإسلام والإنسانية والبحث العلمي.
وتُمنح الجائزة سنويًا في خمسة فروع: خدمة الإسلام، الدراسات الإسلامية، اللغة العربية والأدب، الطب، والعلوم، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين واهتمام مباشر من الأمير خالد الفيصل رئيس هيئة الجائزة.
وقد حصل 23 فائزًا من فروع الطب والعلوم لاحقًا على جائزة نوبل تقديرًا لإنجازاتهم العلمية الرائدة، ما يعكس ريادة الجائزة ومكانتها العالمية.
يُعلن عن أسماء الفائزين عادة في شهر يناير من كل عام، فيما تُقام مراسم تسليمها بعد نحو شهرين في احتفال رسمي يُعد من أبرز الفعاليات الثقافية والعلمية في المملكة والعالم الإسلامي.
وحتى عام 2025م، بلغ عدد الفائزين 301 عالمٍ من 45 دولة، يمثلون مدارس فكرية وبحثية متعددة، الأمر الذي جعل الجائزة جسرًا للتواصل بين الحضارات ومختبرًا للمعرفة الإنسانية المشتركة.
إرث إنساني ورسالة خالدة
واختُتمت المحاضرة بعرض أفلام وثائقية قصيرة تناولت محطات من مسيرة الجائزة ومقتطفات من كلمات الأمير خالد الفيصل في حفلات التكريم، إلى جانب مشاهد أرشيفية للفائزين من مختلف القارات.
وأكد الدكتور السبيل أن الجائزة تحرص على توثيق إرثها بالصورة الحديثة، من خلال الوسائط المرئية والإنتاج المعرفي، لتبقى نموذجًا حيًا في خدمة العلم والعلماء.
إن جائزة الملك فيصل كما وصفها المحاضر، هي «أيقونة للعلم والوفاء»، تكرّم منجز الإنسان وتربط بين الفكر والعمل، وتقدّم للعالم وجهًا حضاريًا ناصعًا للمملكة العربية السعودية التي آمنت بالعلم طريقًا للنهوض والتكامل الإنساني.