السموأل محمد إبراهيم
في زحام الإسفلت، وضجيج العجلات، وارتجاج الأرصفة تحت ثقل الإسمنت، تاه الإنسان. أصبح رقماً في عدادات المرور، وظلاً ينعكس على ناطحات الصمت. لكن شيئاً ما كان ينقص المدن. لم تكن تحيا، بل تبنى. لم تكن تؤنس، بل تكدس. حتى جاء من يعيد السؤال إلى موضعه الصحيح: أين الإنسان من كل هذا؟.
أنسنة المدن أكثر من هندسة:
أنسنة المدينة «ليست مصطلحاً عابراً يطرح في وثائق التخطيط الحضري، ولا مشروعاً ديكورياً يضاف» إلى الأرصفة. إنها فلسفة، رؤية، وموقف أخلاقي تجاه الإنسان، قبل أن تكون بنية تحتية أو خطة تطوير. فالمدينة المؤنسة ليست تلك التي تقاس بطول جسورها ولا بعلو أبراجها، بل باتساع صدور أهلها للحياة. لا تعرف بما تكدس فيها من مراكز تجارية ولا بمظاهر الحداثة المجردة، بل تقاس بقدرتها على أن تحتضن الإنسان، أن تصغي لنبضه، أن تفسح له مكاناً آمناً يمشي فيه بلا وجل، ويبتسم بلا قيد. المدينة المؤنسة هي التي تمنح الأطفال فضاء للركض لا يقاطعهم فيه الخوف، وتمنح الشيوخ ظلاً لا يحاصرهم فيه الإسفلت، وتمنح النساء حق العبور لا حق التوجس، وتمنح الشباب مدناً تتسع لأجسادهم وأحلامهم، يختبرون فيها قوتهم لا بوصفها مجرد طاقة جسدية، بل باعتبارها تجل لفكرة نبيلة: إن العقل لا يشرق إلا في جسد سليم، والمدينة التي تكرم رياضة الجسد، إنما تمهد لنهضة الفكر وتوقد جذوة الحياة في أوصالها. هي المدينة التي لا تضع الطبيعة على الهامش، بل تعيدها إلى صدارة المشهد، حيث الشجر لا يقطع، بل يزرع، وحيث الأرصفة لا تبنى للسيارات فقط، بل للخطى أيضاً. في المدينة المؤنسة، تقاس الحضارة لا بما يشيد، بل بما يستعاد من إنسانية. هناك لا تبتسم الوجوه للخرسانة، بل للطبيعة حين تعود وتصافح المكان. لا تتحدث المدن عن مجدها بلغة الحجر، بل بلغة البشر حيث تصبح المساحة دعوة للعيش، لا مجرد اتساع جغرافي، وتغدو التفاصيل الصغير - مقعد في ظل شجرة، سبيل ماء، ممر مشاة - هي التي تروي الحكاية الكبرى لمدينة أنصفت الإنسان، واحتفت به لا عابراً، بل غاية. فأنسنة المدينة هي أن يجد كل إنسان فيها ما يشبهه، وما يحتضنه، وما يحاوره.
الرياض.. حين نهضت المدينة من سباتها
لعل من أروع التجارب التي تروى في هذا السياق، ما تشهده مدينة الرياض اليوم، لقد كانت العاصمة، في زمنٍ ليس ببعيد، تعرف بشوارعها الممتدة، ومبانيها المتباعدة، وحرارة صيفها التي تنزع الحياة من ملامحها. لكن الإرادة حين تتجسد في رؤية، والرؤية حين تترجم إلى فعل، فإن المستحيل لا يعود جداراً، بل ممر مفتوح على الممكن. والتغيير لا يرتجى، بل يصنع. ومن هذا المعنى العميق انطلقت أنسنة المدن في المملكة، لا كمجرد مشروع عمراني، بل كتحول حضاري تقوده البصيرة. وكما أكد صاحب السمو الأمير الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عياف، المستشار الخاص لخادم الحرمين الشريفين ونائب وزير الحرس الوطني، فإن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله - هو رائد أنسنة المدن، وهو من احتضنها فكرة، ورعاها توجهاً، ودعمها نهجاً، منذ أن كان أميراً لمنطقة الرياض.
فالرياض لم تكن مجرد مدينة تبنى، بل كانت إنساناً يستعاد. وحين التقت الرؤية بالذاكرة، أعادت العاصمة تعريف ذاتها: لم تعد فقط أبراجاً تمتد في الأفق، بل ذاكرة حية تتسع للناس، وفضاءات تشبه خطواتهم. ومن هنا ولد مشروع الأنسنة، لا كتحسين تجميلي، بل كاسترداد لكرامة الحياة في المكان، واستدعاء للإنسان من خلف الجدران الإسمنتية. وفي امتداد هذا النهج النبيل، تأسست «جائزة الأمير عبدالعزيز بن محمد بن عياف لأنسنة المدن»، اعترافاً بالدور الريادي الذي اضطلع به سموه في جعل الرياض نموذجاً يحتذى، لا في البنية فقط، بل في الفكرة. لقد آمن أن المدينة لا تقاس بارتفاعاتها، بل بمدى قربها من الإنسان، ونجح في تحويل ذلك الإيمان إلى معالم، وممرات، وحدائق، ومساحات تروى فيها حكاية حضارة، وعينها على المستقبل.
لذلك نجد أن مشروع «أنسنة المدينة» في الرياض، والذي أطلقته هيئة تطوير مدينة الرياض سابقاً «الهيئة الملكية لمدينة الرياض»، لم يكن تجميلاً لواجهة، بل تصحيح لاتجاه. من خلاله، أعيدت الحياة للمشاة، فتوسعت الأرصفة، وزرعت الأشجار، وانتشرت المسارات، وعاد للحي معنى الجوار. فتم تطوير حدائق الأحياء، وتأهيل الفضاءات العامة، وتحسين الوصول إلى الخدمات، وتهيئة البيئة لتكون صديقة للطفل، والمسن، وذوي الإعاقة. كل هذا ليس لإرضاء العين فقط، بل لإشباع الروح التي طالما شعرت بالغربة في مدنها.
حين يصبح التخطيط رحيماً
أنسنة المدينة ليست ترفاً عمرانياً، ولا تجميلاً سطحياً لواجهات الإسمنت، بل هي جوهر الحضارة حين تعترف بأن الإنسان ليس عابراً في الفضاء المديني، بل هو مركزه وعلته ووجهته. ليست المدينة مجرد «موقع» للحياة، بل يجب أن تكون «صيغة» للحياة، تبنى بعيون تفهم الاحتياج، وقلب يحسن الإصغاء للخطو، ولظل العابرين في شوارعها. فالمدن التي تصمم بخيال المعماري فقط قد تدهش النظر، لكنها لا تلامس الشعور، ولا تشبه ساكنيها. أما التي تصاغ بالحب، وترتفع من أسس الرحمة، فإنها تتحول إلى بيت واسع، لا تغلق نوافذه على الفرح، ولا تضيق بأحلام من يسكنها. وهنا، في الرياض هذه العاصمة التي كانت حلماً، ثم أصبحت مختبراً حضارياً حياً تجلى البرهان: أن التحولات الكبرى لا تحتاج قروناً، بل تحتاج إرادة تبصر بالنية الصادقة، وتعمل بعقلٍ يفهم أن المدن، تماماً كبني البشر، لا تحيا بالأنظمة وحدها، بل بالذين يصغون لنبضها، ويزرعون فيها الأمل والمعنى.
خاتمة: المدينة التي تشبهنا
أعظم ما قد تهبه المدينة لساكنيها، ليس الطرق المعبدة، ولا الأبراج المتعالية، بل ذلك الشعور الخفي العميق بأنك منها، لا عليها. أن تمشي في طرقاتها، فيهمس لك كل ركن فيها: أنت لست غريباً هنا، هذه الأرض تعرفك، وتحفظ خطوك. لذلك، نشكر الرياض لا لأنها بنيت، بل لأنها أعيدت لتبنى بالإنسان، لا فوقه. لم تكن مجرد مخططات عمرانية تملأ الفراغ، بل كانت مسعى حقيقياً لأن تكون المدينة مرآة لأحلام أهلها، وملاذاً لأرواحهم، ومساحة تنمو فيها الحياة بكرامة وبهجة.
شكراً بحجم الرؤية لصاحبها: خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، رائد أنسنة المدن، الذي أدرك أن الحضارة لا تقاس بعدد الأدوار، بل بعلو القيمة الإنسانية في كل حجر. وشكراً لسمو ولي العهد، المهندس الأول لرؤية تعيد ترتيب أولويات الوطن على مقياس الإنسان.
وشكراً للأمير عبدالعزيز بن محمد بن عياف، الذي لم يرَ في المدينة كتلة من الخرسانة، بل كائن حي، تروى روحه بالرحمة، ويشاد قلبه بالتفاصيل النابضة التي تشبهنا جميعاً. في زمنٍ يتسابق فيه العالم في تشييد المدن، اختارت الرياض أن تشيد الإنسان. اختارت أن تكون لا مجرد عاصمة، بل حضن مفتوح يسعنا بالحب، والفهم، والانتماء. وهذا، والله، هو المعنى النادر في زمن كثر فيه العمران وقل فيه العمق.