محمد الخيبري
لم يكن هذا التأهل عاديًا، لم يكن مجرد إضافة رقم جديد في سجلات «الصقور الخضر»، بل كان انتصارًا لإرادة لا تعرف الاستسلام..
على الرغم من أن المنتخب السعودي قد اعتاد على أن يكون سيدًا متوجًا لتصفيات القارة، ومتأهلًا بشكل مباشر كمرشح أول للنهائيات، جاء تأهله إلى كأس العالم 2026 (المرة السابعة في تاريخه) ليروي قصة أخرى؛ قصة عن تأهل بـ»طعم التحدي» مر عبر عنق الزجاجة، الملحق الآسيوي، ليؤكد أن العشق الكروي في المملكة لا يفتر..
حينما أُطلقت صافرة النهاية في مباراة الملحق التاريخية، لم تكن مجرد نهاية لمباراة، بل كانت بداية لاحتفالية انتظرها الملايين من السعوديين..
لم يكن التأهل مجرد هدف رياضي، بل تأكيد على الحضور المستمر للكرة السعودية على الساحة العالمية..
بتأهله، أصبح «الأخضر» سابع منتخب عربي يضمن مقعده في مونديال الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، ومسجلًا رقمًا قياسيًا جديدًا بوصوله للمرة السابعة في تاريخه..
هذا الرقم ليس مجرد إحصائية، بل دليل على أن كرة القدم السعودية جزء أصيل من النسيج المونديالي..
تاريخيًا، ارتبط تأهل المنتخب السعودي بـالهيمنة والقوة في مجموعات التصفيات، لطالما كان «الأخضر» هو المرشح الأوحد، يفرض إيقاعه ويتصدر مجموعته بيسر نسبي..
ولكن هذه المرة، كانت الرحلة مختلفة ومضنية وجاء التأهل عبر بوابة الملحق الصعبة، ليتسلل القلق خلسة إلى قلوب الجماهير التي كانت تنتظر الحسم المبكر..
إن خوض غمار الملحق، الذي هو أشبه بـ»الاختبار الأخير»، زاد من قيمة التأهل وجعله ذا نكهة خاصة..
لم يكن انتصارًا سهلًا أو طبيعيًا، بل انتصار للإصرار بعد فترة من التذبذب في الأداء..
لقد أثبت اللاعبون أنهم قادرون على تحقيق الهدف حتى في أصعب الظروف..
لعل أبرز ما ميز هذه المرحلة هو ترقب الجماهير السعودية الشديد وغير المسبوق..
على الرغم من المسار المتعرج، لم تتخلَ الجماهير يومًا عن دورها كـاللاعب رقم 12..
كانت كل مباراة في الملحق بمثابة اختبار للعزيمة الوطنية، وكانت الهتافات والدعم هي الوقود الذي دفع «الأخضر» نحو الأمام..
إن هذا التأهل، الذي جاء بـ»طعم التحدي»، أعاد التأكيد على حقيقة واحدة ، المنتخب السعودي ليس مجرد فريق، بل رمز وطني يمثل طموح أمة وشغف ملايين لا يهدأ..
فنياً و بعيدًا عن ضجيج المدرجات وشغف التأهل، شهدت مباراة الملحق الفاصلة سيطرة كاملة للجانب التكتيكي البحت، محولة اللقاء إلى «شطرنج كروي» بارد..
كانت الجماهير تنتظر الإثارة والفرص السانحة، لكن ما حدث على أرض الملعب كان استسلامًا لمنطق الحذر المُفرط..
تميز اللقاء بانحسار اللعب في منتصف الملعب، حيث اعتمد كلا المدربين على تكثيف منطقة الدفاع والوسط، مما خلق جدارًا بشريًا صعب الاختراق..
هذا التكتيك نتج عنه هجمات خجولة وفرص قليلة كادت الفرص المحققة على المرميين تُعد على أصابع اليد الواحدة، ما يؤكد أن الأولوية كانت لعدم استقبال الأهداف أولاً، قبل محاولة التسجيل..
على الرغم من محاولات البناء عبر الأطراف، إلا أن التراجع المبالغ فيه للمدافعين والارتداد السريع للوسط حال دون تحويل هذه العرضيات والمحاولات الجانبية إلى خطورة حقيقية داخل منطقة الجزاء..
لقد كانت مباراة صعبة الإرضاء للمشجع، لكنها كانت درسًا في الواقعية التكتيكية..
التأهل لم يأتِ بـ»فن الإبداع»، بل بـ»فن التحمل والصبر» على نهج تكتيكي قسري فرضته حساسية اللحظة وضغط النتيجة..
هذا الأسلوب أثبت أن المنتخب، في أشد لحظات التحدي، قادر على إدارة المباراة تكتيكيًا، حتى لو كان الأداء الجمالي غائبًا..
والآن، بعد أن ارتفعت راية المملكة مجددًا في سماء المونديال، وبدأ الجميع يردد ويغني « هذا السعودي فوق .. فوق « ستبدأ صفحة جديدة من التحضير، بهدف تجاوز مجرد المشاركة إلى ترك بصمة تاريخية تليق بهذا الشغف العظيم..
قشعريرة
دائمًا ما تكون الأضواء مسلطة عليه، والأقلام جاهزة للنقد قبل المديح..
سالم الدوسري، أيقونة الكرة السعودية و»التورنيدو» الذي يزلزل الشباك، وجد نفسه مؤخرًا في عين عاصفة الانتقادات..
جاء هذا النقد بسبب انخفاض مستواه الفني المعتاد وضياعه لفرص سهلة، وهو أمر يبدو «مستغربًا» على نجم بحجمه..
لكن ما غاب عن الكثيرين هو الصورة الكاملة: موسم طويل وشاق، إجهاد بدني وإصابات مُتحامل عليها، وضغط متراكم يثقل كاهل أي رياضي..
لكن في ليلة الحسم، وتحديدًا في مباراة التأهل المونديالي أمام العراق، لم يظهر سالم الدوسري كـ»النجم» الذي يركض خلف الأهداف، بل تجسد في صورة «القائد الحقيقي» الذي يركض خلف هدف الوطن..
في تلك المباراة، التي اتسمت بالتوتر التكتيكي والحذر المبالغ فيه، لم يكن الدور الأساسي للدوسري هو المراوغات المعتادة، بل تحول إلى صمام أمان تكتيكي داخل الملعب..
لقد كان سالم هو ذراع المدرب على أرضية الميدان، يقوم بفرض الأسلوب التكتيكي المطلوب، وهو ما تمثل في التوجيه المستمر لزملائه الذي لم تتوقف إشاراته لهم طول التسعين دقيقة، مطالبًا إياهم بالهدوء ونقل الكرة بأكبر قدر من الثقة، خاصة في ظل ضغط الخصم الشرس..
إدارة البدلاء كان لها دور حاسم في اللحظات التي تسبق نزول اللاعبين البدلاء، حيث كان يقدم لهم إيجازًا سريعًا عن دورهم الجديد في أرض الملعب وتوزيع الأدوار، ليضمن دخولهم في أجواء اللقاء دون تأخير..
كانت الخطة التكتيكية تعتمد على تقليل فرص الخصم، وهذا لم يكن ليتحقق إلا عبر التحكم بالكرة. هنا برز دور الدوسري القيادي بشكل لا يخطئ..
كانت أغلب الكرات السعودية تتنقل بين أقدام اللاعبين لفترات طويلة وبعدد ثواني نموذجي، لتصل نسبة الاستحواذ إلى مستوى عالٍ..
هذا النوع من اللعب لم يكن مجرد ترف، بل كان سلاحًا للضغط النفسي والبدني على لاعبي الخصم، الذين اضطروا إلى الركض المستمر ومطاردة الكرة، مما تسبب في خسارتهم لأغلب كراتهم نتيجة للإرهاق التكتيكي..
سالم الدوسري لم يكن فقط جزءًا من هذه المنظومة، بل كان المحرك الذي طالب بالاستمرارية في نقل الكرة، مؤكدًا لزملائه أن التعادل أو الفوز آتٍ طالما بقيت الكرة بأقدامهم..
لقد أثبت سالم الدوسري في تلك الليلة الحاسمة أن القيادة لا تقتصر على شارة الكابتن حول الذراع، بل هي تضحية وإدارة ذكية للجهد تحت وطأة النقد والألم. تحمله على إصابته وإجهاده لم يمنعه من تأدية الدور الأهم: قيادة المنتخب للتأهل..
في النهاية، تتلاشى الانتقادات أمام الأفعال، ويثبت الدوسري مجددًا أنه في اللحظات التي يحتاج فيها الوطن إلى صرخة بطل، يكون هو الصوت الأعلى والأكثر تأثيرًا. هذا هو الفرق بين النجم الذي يسجل الأهداف، والقائد الذي يصنع التاريخ لجيل كامل..