د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
سألت سماحة شيخنا -رحمه الله- ونحن متجهون إلى مكان درسه في المعهد عن بعض ما تفعله مكاتب الدعوة أو بعض المراكز الإسلامية في تأخير الذي يريد الإسلام إلى ما بعد صلاة الجمعة، فقال: لا يجوز هذا منكر عظيم، فقلت: بعضهم ربما يلقنه الشهادة حين قَدِمَ إلى المكتب، ثم يواعده ليصلي الجمعة في جامع مقصود، وبعد صلاة الجمعة يقوم فيقول للمصلين: معنا مسلم جديد ثم يبدأ هو أو خطيب الجامع بتلقينه الشهادة مرة أخرى أمام الناس؛ ليكون دعاية للمكتب أو تشجيعاً لهذا المسلم، فهل هذا فعل حسن؟ فقال: بل هو عمل غير مشروع، ولا يصح تلقينه مرتين كأنه لتوه أسلم، هذا تمثيل لا يحسن فعله.
وغيرها من الأسئلة التي كنت أستغل ممشى سماحته من السيارة إلى مكان الدرس، ولا أنسى أحيانًا وصوله لمكان الدرس قبل بدء الدرس بدقائق، فيبدأ بتلاوة القرآن حتى يبدأ وقت الدرس والمحاضرة.
وحال سماحته مع كلام ربه حال عجيب! يذكِّرك بالسلف الصالح بلا مزايدة، كان يختم كل ثلاثة أيام، فإن غُلِبَ ختم في خمسة أيام، ويكون متكدرًا بهذا التأخر، كم من مرة رأيته يقرأ بصوته الجهوري والآيات تتحدر من فيه، كأنه يمرُّ في القراءة مرَّ الجواد، أذكر أني صليتُ الظهر في الطائف بعد لقاء مع سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله في مكتبه، فلما دخلتُ المسجد الذي بمقر الإفتاء، فإذا بعض علمائنا من أعضاء اللجنة قد حضروا، ونائب المفتي حينها الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ يصلي سنة الظهر فلما انصرف من صلاته بدأ يتلو الآيات بصوت مسموع، حتى أقيمت الصلاة فتقدم الشيخ ابن باز رحمه الله فصلى بنا الظهر، ومما علمته يقينًا أن الشيخ ابن باز في اجتماع اللجنة الدائمة للإفتاء سأل المشايخ مرة قائلاً: في كم تختمون القرآن؟ فتكلم المشايخ وأجابوا ثم أخذ الشيخ ابن باز يوصيهم -رحمهم الله جميعًا- بالقرآن تدبرًا وإكثارًا من قراءته، وأن يستعينوا بالله على قراءته وطلب الهدى الذي جعله الله فيه.
لله درهم يتواصون بالقرآن وبتدارسه وبالإكثار منه، مع أنهم من أكثر العلماء قراءة له، وإقبالاً عليه، ودعوة إليه.
فإذا نظرنا في حال سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ رحمه الله فهو منذ عشرات السنين يختم كل ثلاث ليال، فلو حسبنا ذلك في خمسة وعشرين سنة فقط، لكان عدد الختمات «ثلاثة آلاف ختمة»، كيف وهو يختم القرآن في ثلاث منذ خمسين سنة!
هذا مع كثرة أشغاله، وتنوع أعبائه، وعظم مسؤوليته، وكثرة دخول الناس عليه، وقيامه بالتعليم والتدريس والفتوى في الإذاعة والتلفاز والمسجد، غير حضوره المناسبات، وزيارة المرضى، وشهود الجنائز، ومع ذلك يختم في ثلاث، لا يقوم بذلك إلا رجل تعلق قلبه بالقرآن وأقبل عليه.
وهذا يذكِّرك بما روي عن بعض السلف كأبي بكر بن عياش -رحمه الله- أنه لما حضرته الوفاة بكت أخته، فقال لها: ما يبكيك؟ انظري إلى تلك الزاوية التي في البيت قد ختم أخوك فيها ثمانِي عشرة ألف ختمة.
تِلْكَ المَكَارِمُ لَا قَعْبَانَ مِنْ لَبَنٍ
شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
وأذكر مرة اتصل بي أحد الأصدقاء الكرام قائلاً إن أخي سيعقد عقد نكاحه، فلعلك تتكرم ببعض وقتك لإجراء عقده، علمًا أن سماحة المفتي سيحضر العقد، فقلت: على الرحب والسعة، وقلت له: لعلك تقول لسماحته غفر الله له أن يلقي خطبة النكاح، حضر المدعوون، وبعد القهوة وتوابعها، قلت: لسماحته إن رأيتم تبدؤون أحسن الله إليكم، فبدأ بخطبة الحاجة، ثم قال: الحمد لله الذي أحلَّ النكاح وحرم السفاح، فقال سبحانه: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النــور: 32)، ثم استمر في القراءة فقرأ آية أو آيتين ثم توقَّف، وبدأ بمخاطبة ولي الزوجة وتم العقد، ولم أستغرب قراءته لغير الآية المقصودة والموافقة للمناسبة من شيخٍ قد أحبَّ قراءة القرآن وتعلَّق به في ليله ونهاره فرحمه الله.
ومما هو مشهود في مدينة الرياض ختمة الجامع الكبير -المعروف بجامع الإمام تركي بن عبدالله- والذي يؤمه سماحة الشيخ فكان رحمه الله يختم بالناس في صلاة التراويح ليلة سبع وعشرين، وكان يقرأ في العشر الأواخر جزءًا في التراويح، وجزءين في القيام.
وكان تعلقه بجامع الإمام تركي بن عبدالله تعلُّقًا عجيبًا، ومحافظته على الإمامة فيه أمرًا قد اشتهر عند الخاصة والعامة، وأحسب أن سماحته مما يصدق عليه: أن قلبه معلق بالمساجد.
وكان قبل هذا إمامًا لجامع الشيخ محمد بن إبراهيم بعد وفاة مفتي الديار رحمهما الله، وأذكر لما كنت ملازمًا قضائياً في المحكمة العامة في الرياض كتبتُ بعض الخواطر والأحداث ومما كتبتُه ما نصه: (في هذا اليوم يوم الثلاثاء الموافق 11/ 11/ 1426هـ خرجتُ من المحكمة لصلاة الظهر وتذكرتُ أن جامع سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم الذي تم إعادة بنائه وتوسيعه سيفتتح بعد ظهر هذا اليوم فاتجهت إلى المسجد وهو يقع شمالاً عن المحكمة فدخلته ومكثت قليلاً، فإذا بصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز أمير منطقة الرياض حفظه الله وأمد في عمره على طاعته قد جاء لافتتاحه، وكان قد حضر صلاة الظهر وافتتاح المسجد جمع، منهم: سماحة المفتي العام للمملكة عبد العزيز آل الشيخ، ووزير العدل معالي الشيخ عبد الله آل الشيخ، ورئيس المحكمة الشيخ سليمان المهنا وغيرهم من قضاة وأمراء ثم صلى بنا صلاة الظهر الشيخ عبد المحسن آل الشيخ القاضي بالمحكمة، وقد طلب من سماحة المفتي أن يتقدم فرفض سماحته فصلى بنا؛ إذ هو الإمام الرسمي للمسجد على ما بلغني.. وبعد الصلاة استكمل أمير منطقة الرياض تجوله في المسجد وملحقاته جزى الله ولاة أمرنا على اهتمامهم بالمساجد خيرًا).
فسماحته قد أمضى في الإمامة والخطابة أكثر من خمسين سنة، بل كان الخطباء لا يتجاوزون خطب الإمام محمد بن عبدالوهاب وخطب ابن مخضوب رحمهما الله، وربما أخذ بعضهم من خطب ابن نباتة (ت:374هـ)، وكان تلحين الخطبة والسجع في الخطباء هو السائد، ثم تسامع الناس بخطيب مختلف عن السائد في الإلقاء والاستشهاد والتأثير، وله نبرة متميزة لا تلحين فيها، فانكب الناس عليه، وتزاحموا لحضور خطبه، واشتهر أمره، فلما توفي مفتي الديار الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله تولى مكانه في إمامة وخطابة جامعه هذا هو سماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ رحمه الله المفتي العام للمملكة العربية السعودية.
كان عالماً يحب التعليم والحديث عن العلم وكتبه وأهله وطلابه.
زرته مرة في الطائف بعد صلاة المغرب، فكان مجلسًا محفوفًا، فبعد التحية والسؤال انجر الكلام إلى ذكر بعض الكتب وبعض العلماء الأعلام، فرأيت الشيخ رحمه الله تنبلج أسارير وجهه، ويأنس بالحديث، ويصغي بسمعه، ويتكلم بما يتيسر من فوائد حول الكتاب، فمثلاً لما جاء ذكر ابن المنذر رحمه الله، وكتابه «الأوسط»، قال سماحته: رحم الله ابن المنذر ما أنفع كتبه وأعظمها، ولا يزال جزء الزكاة والصوم والحج من الأوسط مفقودًا، عسى الله ييسر من يجده فيخرجه، فهو عجيب في ذكر المسائل وآثار الصحابة، فقلت: أحسن الله إليكم شيخنا، أذكر في مسألة (تأجيل دية الخطأ على العاقلة ثلاث سنين)، آثارًا عن بعض الصحابة رضي الله عنهم لم أجدها إلا عند ابن المنذر في الأوسط، حتى إن ابن الملقن في «البدر المنير»، قال:(وبقي عليك أثر ابن عمر وابن عباس ولا يحضرني من خرجه عنهما)، وقال ابن حجر: (وأما الرواية بذلك عن ابن عباس فلم أقف عليها)، وجميع الآثار المخرجة عن الصحابة رضي الله عنهم لا تصح إلا أثر ابن عباس الذي لم يجده جمع من أهل العلم، وتم الوقوف عليه في الأوسط بعد إكمال تحقيق الأجزاء الباقية، وقد بيَّنتُ هذا في كتاب (الاجماعات الفقهية التي حكاها الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله).
فما أن ذكرت لسماحته رحمه الله الأثر عن ابن عباس رضي الله عنه إلا كبَّر وترحم على ابن المنذر، ثم قال رحمه الله: المحلى لابن حزم رحمه الله مليء بالآثار، فذكرتُ بين يدي سماحته أثرًا أورده ابن حزم في المحلى وصححه ولم يأخذ به! مع أنه قال: لم يثبت في المسألة حديث، ومع ذلك لم يأخذ بالأثر، ربما لأنه قد بُني على القياس! وهو أثر عمر رضي الله عنه في مدة المسح على العمامة وأنها كالمسح على الخفين. فتعجب الشيخ وترحم على ابن حزم، فقلت لسماحته: يا حظ ابن حزم فقد حججتم عنه؟!
فقال: لموقفه العظيم في الرد على النِّقْفُور والقصيدة التي أرسلها إلى الخليفة المطيع لله، قال سماحته رحمه الله: فلما سمعتُ ما كتبه ابن كثير عن موقف أبي محمد ابن حزم حججتُ عنه، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وقد انتخى للجواب عنها فيما بعد ذلك أبو محمد ابن حزم الظاهري، فأفاد وأجاد، وأجاب عن كل فصل باطل بالصواب والسداد، فبلَّ الله بالرحمة ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه... قالها ارتجالاً حين بلغته هذه الملعونة؛ غضبًا لله ولرسوله، كما شاهده من رآه، فرحمه الله وأكرم مثواه، وغفر له زللـه وخطاياه).
الله أكبر! يحج خطيب عرفة عن علماء لا يجمعه معهم نسب ولا حسب، أيُّ نفس تفيض خيرًا وحبًّا وكرمًا ووفاءً بين جنبي سماحته رحمه الله.
وَلَا يَسْتَطِيعُ الفاعِلونَ فعَالَـهُم
وَإِن أحْسَنُوا فِي النَّائِبَاتِ وأجْمَلُوا
رأيت سماحته رحمه الله من أكثر علمائنا إعجابًا بكتاب «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي، وقد حضرت بعض القراءة فيه عليه، وأذكر موقفًا وهو أن أحد الجهلة ممن حضر الدرس ولا أعرفه، وكانت القراءة من كلام القرطبي عن الذبيح أهو إسماعيل أو إسحاق عليهما السلام؟ فتكلَّم ذلك الجاهل رافعًا صوته دعنا يا شيخ من الذبيح؟ وأخبرنا عن الذبيحة: رئاسة البنات!! (يعني حين دمجت مع وزارة التعليم إداريًا)، فعمَّ السكوت الدرس، ثم قال سماحته: يا أخواني الأمور لا تورد هكذا، ولا تُتناول هكذا، ودعا بالتوفيق للجميع، وطلب إكمال القراءة. أفهذا الذي تكلَّم وقاطع الدرس قد تأدَّب في مجلس العلم؟ أو احترم مجلس العالم الذي هو المفتي العام للبلاد ورئيس هيئة كبار علمائها؟ لكن ما أحلم الشيخ، كأن شيئًا لم يكن.
يَنَالُ بِالرِّفْقِ مَا يَعْيَا الرِّجَالُ بِهِ
كَالمَوْتِ مُسْتَعْجِلًا يَأْتِي عَلَى مَهَلِ
حقيقة إن بعض الناس ولو كان منتسبًا لعلم أو دعوة ولو كانت عنده غيرة إلا أن فيه طيش وجهل!
وقد يكون عند بعضهم علم وفقه لكن فيه طيش، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله عن أحد العلماء لقيه في مصر: (ما رأيت أفقه منه لولا طيش فيه).
لقد مرت أحداث كثيرة على المسلمين وبلدانهم، وحدثت تغيرات غير مسبوقة في العالم وتتابعت، ومرت فتن كثيرة، كالتفجيرات، والدعوة إلى المظاهرات، والانضمام إلى مواطن الصراع باسم الجهاد، والفساد المسمى بالربيع العربي، وكانت دائرة الرحى في بيان الحكم الشرعي والنصح للناس على علمائنا ورئيسهم وهو سماحته، فقاموا ونصحوا وبينوا وردوا على أهل الباطل والبدع والانحراف، جزاهم الله عن المسلمين خير الجزاء. ولما أَحضر أحد دعاة الحزبية إلى سماحته بيانًا موقعًا من عدد ممن يُنسب إلى العلم والدعوة قبل أكثر من خمسة وثلاثين سنة، رفض سماحته أن يضاف اسمه وامتنع عن ذلك، فغضب هذا وقال: كيف لا تفعل! وقد وقع من هو أعلم وأعلى قدرًا، فأصر سماحة الشيخ على موقفه، وأن هذا الفعل ليس طريقًا صحيحًا في النصيحة، فلما رأى هذا إصرارَ الشيخ وامتناعه خرج غاضبًا، كيف هذا الشيخ مع لطفه وسماحته وسهولته لم يتزحزح عن رأيه قيد أنملة! ولم يستطع أن ينتزع منه الموافقة! فرحم الله الشيخ وأجزل مثوبته.
يظُنُّونَ أنّ الشِّعْرَ قبسةُ قابسٍ
متى ما أرادُوه وسِلعةُ بائع
دخلت على سماحته رحمه الله في مجلسه، ولم يكن عنده أحد يقرأ، فتعجَّبتُ! إذ يندر أن أدخل عليه إلا وبين يديه من الطلاب من يقرأ عليه في كتب أهل العلم، فسلمتُ وجلستُ بجواره عن يمينه، فسأل عن الأخبار والأحوال، وعن المعهد العالي للقضاء وعن غيره، وتتابع الحديث واذكر أنه جاء ذكر الشيخ عبدالله بن حميد رحمه الله، وأن سماحته قد حضر مجالسه ودروسه في الرياض، بل من لطيف ما تذكَّره سماحته من دروس الشيخ ابن حميد أن الشيخ عبدالله سئل عن مقدار مدة زوال الشمس إذا تحركت عن كبد السماء؟ فقال: كمقدار قراءة الفاتحة، تنويهًا منه على قصر الوقت، ثم قال سماحة الشيخ عبدالعزيز رحمه الله: أذكر السائل الذي سأل الشيخ ابن حميد! هو الشيخ عبدالرحمن بن فريان رحمهم الله.
ومن باب الفائدة فقد سئل الشيخ عبد الله أبا بطين رحمه الله: عن قدر وقت النهي عند قيام الشمس؟ فأجاب: وقت النهي عند قيام الشمس يعرف بتناهي الظل في النقص، فإذا وقف عن النقص قبل أن يأخذ في الزيادة فهذا حين قيامها؛ وهو وقت قصير جداً، وفي كلام بعضهم: أنه ما يمكن فيه قراءة الفاتحة.
ثم ذكرت لسماحته أن سائلاً سأل الشيخ ابن حميد رحمه الله: أيُّ البنتين نكح موسى عليه السلام الوارد ذكرهما في سورة القصص {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} (القصص:27)؟
فتبسم الشيخ ابن حميد من السؤال، وقال: لا أعلم، فتبسم شيخنا رحمه الله، وكأني قلت لسماحته: لو قال الصغرى منهما، فقد قيل: هي التي دعته بقولها: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} (القصص:25).
ثم وجدتُ حديثًا أخرجه البزار في مسنده، وابن أبي حاتم في تفسيره: أنها الصغرى، وذكر ابن العربي في تفسيره ثلاثة أمور لتزويج الصغرى قبل الكبرى.
كان سماحة الشيخ وفيًّا وفاءً عجيبًا لمن أحسن إليه، ومما أذكره هنا وفاؤه مع الشيخ الكريم عبدالعزيز بن مقيرن رحمه الله، وقد عرفتُ هذا الشيخ الوقور بإمامته في جامع الأميرة سارة في دروس سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله، وكان يذكرني صوته خاصة إذا قال: استووا بسماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ، وكان سماحته يقول: لا أنسى فضله، ولما ثقل الشيخ ابن مقيرن كان يصلي في جامع الملك خالد، فربما جاء سماحة المفتي ليصلي على جنازة، ثم بعدها يتجه إلى الشيخ عبدالعزيز بن مقيرن وهو على عربة ويجلس سماحته أمامه ويتحدث معه وجمع من الناس قد التفوا حولهما ينظرون من هذا الرجل الذي جلس إليه سماحته بأدب تام، وكلام دافئ، كأنه أخ كبير لسماحته، إنه الوفاء الذي حرك سماحته رحمه الله. حدثني أحد الدكاترة الفضلاء من المشايخ الكرام ممن كان قد قرأ على سماحته قائلاً: انقطعتُ عن سماحته بالأسابيع، فلما أتيته أمسك يدي، ومال برأسه نحوي! ففهمتُ من حركته أنه يريد أن يُسرَّ إليَّ بشيء، فقرَّبتْ أذني إليه، فقال: عسى ما فيه أحد أزعلك؟! فقبَّلت رأسه، وقلت: أبدًا شيخنا، وذكرتُ له ببعض الأعذار.
وكان رحمه الله مضرب مَثَلٍ في بره بوالدته، وهي بما ذُكر عنها رحمها الله تذكِّر بفعل أمهات العلماء العظماء الماضين في تربيتهم وحسن الاهتمام بالولد (ذكرًا كان أو أنثى)، فقد كانت تذهب بسماحته إلى المسجد في صلاة الفجر، وتنتظره عند باب المسجد، وكان سماحته يبدأ بها ويتحدث إليها، وإذا أراد النوم مرَّ وسألها إن كانت تحتاج شيئًا قبل نومه، بل لما كانت في المستشفى في غيبوبة، إذا رجع من سفر بدأ بأمه رحمه الله من المطار مع أنها في غيبوبة! لكن البر الذي سيجده بإذن الله وفضله في ميزان حسناته، وقد حجَّ بها سنين كثيرة.
كان ذا عبادة وصلاة، ربما أمضى في صلاة الضحى ما يقرب من ساعتين كان على ذلك فترة طويلة من فترات حياته، وكان يصلي صلاة الليل نحوًا من هذا الوقت.
صلى بالناس العشاء وبعد أذكار الصلاة، قام لسنة العشاء فاستفتح بسورة لقمان فما ركع حتى ختم سورة السجدة، ثم الركعة الثانية قرأ سورة الأحزاب كاملة، سبعة عشر وجهًا في راتبة صلاة العشاء فقط!
مَا زَالَ يَسبِقُ حَتَّى قَالَ حَاسِدُهُ
لَهُ طَرِيقٌ إلى العَلياءِ مُختَصَرُ
كان رحمه الله لا يخفي محبته لطلاب العلم بل ويسأل عنهم، ويبدأ هو بالتواصل معهم، ويثني على مؤلفاتهم ومحاضراتهم، أذكر أنه اتصل بي شيخنا الجليل الشيخ صالح الفوزان متعه الله بالصحة والعافية قائلاً: لقد أخبرتْ سماحة المفتي عن كتابك «مسائل صلاة الليل» فرغب أن يطلع عليه، فقلت: أبشر شيخنا هو في المطبعة، فأول ما يصدر آتي به إليه بإذن الله، وبعد أسبوع اتصل مرة ثانية، وقال: وصل الكتاب؟ فقلت: بعدُ، فقال: لا تتأخر به على سماحته... فلما وصلني الكتاب، بعثتُ بالكتاب إلى الطائف عن طريق دار الإفتاء؛ إذ كان المشايخ هناك، وقبل رمضان رجعوا إلى الرياض، فمررت بهم في دار الإفتاء بالرياض، فلما سلمتُ على سماحته، قال: أهلاً بصاحب كتاب مسائل صلاة الليل، وأخذ يثني على الكتاب ويدعو لمؤلفه، وأخبرني بأن دار الإفتاء تريد طبعه، فقلت: هذا كرم منكم شيخنا وتشجيع لابنكم، فتم طبعه في دار الإفتاء، وما زال يوزع الآن على طلاب العلم و»طلاب الكتب»، فكتب الله لسماحته موفور الأجر، وأجزل الثواب.
والعجيب أن سماحته قد قرئ عليه الكتاب ثلاث مرات! وما أظن ذلك إلا لتعلقه وارتباطه بصلاة الليل منذ أول شبابه. وكنتُ كلما قابلته: دعاني بقوله: أهلاً بالشيخ محمد «صاحب كتاب مسائل صلاة الليل»! ثم لما يسر الله لي شرحًا على كتاب «لمعة الاعتقاد»، صار يقول إذا سلمت عليه: أهلاً بصاحب كتاب «إتحاف العباد». وكان يسألني ما جديد مؤلفاتك؟ فأقول بعد دعائي له على اهتمامه بالبضاعة المزجاة: في المطبعة كذا، فيظهر الفرح، ويدعو بالبركة، وربما ذكر ما يناسب السياق لموضوع الكتاب، أذكر لما قلت له رحمه الله عن كتاب «إهداء الثواب للميت المسلم» وترجيح الجواز بناء على الأدلة المذكورة في المؤلَّف، وأن الرؤى المحكية في الموضوع كثيرة حتى إن الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله قد ذكر رؤيا عجيبة في إهداء الثواب في الفتاوى المجموعة باسمه، قال سماحته: حدثني أحد أعضاء هيئة كبار العلماء وذكر اسمه رحمه الله أنه أهدى ثواب قراءة القرآن لأمه، فرآها في منامه تقول: وصلت هديتك يا وليدي!
وكان سماحته يشجع طلاب العلم على نشر العلم ويشجعهم على نشره، ولا أظن أحدًا من طلاب العلم في بلادنا المباركة إلا ولسماحته تشجيع له وتواصل معه ولو يسيرًا، أذكر مرة ألقيت محاضرة في جامع الإمام تركي بن عبدالله بحضوره رحمه الله، فكان ينصت إنصاتًا يستحي منه الملقي، وبعد المحاضرة يشكر ويدعو ويثني، بل بعد كل محاضرة يطلب مني أن أطبعها في كتاب، وفي إحدى المحاضرات سلمت عليه مودِّعًا فقال: بودي نطبع المحاضرة في دار الإفتاء لو تزودنا بها مكتوبة، وكان عنوان المحاضرة (أداء الأمانة في الكتاب والسنة)، وقد طبعت بعد ذلك بعنوان(الأمانة).
وكان سماحته مضرب مثل في التواصل مع الناس والمشاركة في أفراحهم وأحزانهم، فقلَّ أن تفقده في مناسبة قد دعي إليها، وكان يكثر من زيارة المرضى، ويتواصل مع طلاب العلم إذا بلغ أن أحدهم قد مرض أو عرض له عارض، ولا أنسى أنه لما عرض لي عارض، تلقيتُ اتصالاً من سماحته رحمه الله يريد الاطمئنان والسؤال، فبشرته أني بخير، ودعوت الله أن يرفع مقامه، وأن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء وأوفاه، ولما انتهت المكالمة، دعوت الله له مرة أخرى، وأسأل الله أن يقبل دعائي ودعاء المسلمين لسماحته، فقد كان رحيمًا، عطوفًا، يأخذ بالعفو، ويأمر بالصفح، قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (فعلى الإنسان أن يكون مقصودُه نفع الخلق، والإحسان إليهم مطلقًا، وهذا هو الرحمة التي بُعث بها محمد صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}.
وَلِي نَفْسٌ تَتُوْقُ إِلَى المَعَالِي
سَتُتْلَفُ أو أبْلِّغْهَا مُنَاهَا
كان سماحته رحيمًا بالطلاب الذين يدرسهم الدراسة النظامية، ويطمئنهم إذا خافوا طول المنهج أو صعوبة الأسئلة، لا أظن أنه جرح أحدًا بكلمة، أو قسى عليه بل كان يفيض حنانًا رحمه الله.
وكان فقيهًا مدركًا لما مضى من مسائل الفقه مستحضرًا لها حتى إنه كان يحفظ زاد المستقنع، فمرة في مرحلة الماجستير في كتاب النكاح قرأ أحد الزملاء بحثًا، فمرَّت مسألة بان فيها خلل في شيء نسيته الآن، فما كان من سماحته إلا أن قام يستحضر حفظه بصوت مسموع سردًا لا تردد فيه من كتاب النكاح من الزاد حتى وصل إلى المقصود فرفع صوته به ثم علق عليه مصححًا ذلك اللبس، فما زالت حركة يده رحمه الله وهو يحك بها رأسه ثم يجعلها على أنفه وفمه ثم يمسك أطراف شعر لحيته وهو يستحضر حفظه في ذاكرة كاتب المقال، ولا يمكن لكثير من القراء استحضار الصورة الذهنية لمجرد هذه الأحرف بل كما قال الجاحظ: (وهذا وشبهه إنما يطيب جدًّا، إذا رأيتَ الحكاية بعينك، لأن الكتاب لا يصوّر لك كل شيء، ولا يأتي لك على كنهه، وعلى حدوده وحقائقه)! وصدق. فأحيانًا لا تكمل لذة الأحرف إلا بشهود الموقف! وأنَّى ذلك، فكم مرة تمنيتُ رؤية الموقف إذا قرأتُ الأحرف المكتوبة عنه، خاصة إذا كان متعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان سماحة شيخنا رحمه الله ناصحًا موجهًا لاتباع السنة، محذرًا مما يخالفها، بل سمعته مرة في برنامج «نور على الدرب» قبل ما يقارب عشرين سنة على الأقل يحذر من الانضمام إلى جماعة التبليغ «الأحباب»، وينصح بالبعد عن الحزبيات، وكان رحمه الله من نصحه يسهب في الجواب، فيوجِّه، ويوضح، ويبين، ويرشد، بأسلوب يفهم الجميع.
كان رحمه الله محبًّا لولاة أمره، عارفًا قدرهم وفضلهم، وكان ولاة الأمر يحبونه ويقدرونه والشواهد على ذلك كثيرة، وقد كتبتُ مقالاً بعنوان (آل سعود وتوقير العلماء)، وأذكر منها أن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -جزاه الله عن الإسلام وأهله كل خير وحفظه عزاً للمسلمين- رأيته قدَّم الماء في إحدى المناسبات لسماحة المفتي العام عبدالعزيز آل الشيخ حين طلب سماحته الماء بل قام الملك من مكانه ووضع الكوب في يد سماحته.
وولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان رئيس مجلس الوزراء - حرسه الله بعنايته، ووفقه لمرضاته، ونصر به دينه- كم مرة زار سماحته في منزله؛ ليسلم عليه ويقبل رأسه، ومن تقديره حفظه الله لسماحته أن كان في مقدمة المصلين عليه، بل ووجَّه بجعل اسم سماحته علمًا على الشارع الرئيس الذي عليه منزل سماحته.
ذكر ابن الجوزي في كتابه «المنتظم»، والذهبي في «تأريخ الإسلام»: أن الأمير إسماعيل بن أحمد قال: كنت بسمرقند، فجلستُ يومًا للمظالم، وجلس أخي إسحاق إلى جنبي، إذ دخل أبو عبد الله محمد بن نصر المروزي، فقمت له إجلالًا لعلمه، فلما خرج عاتبني أخي! وقال: أنت والي خُراسان، تقوم لرجلٍ من الرَّعيّة! هذا ذَهاب السِّياسة!! فَبِتُّ تلك اللّيلة وأنا مُنْقَسِمُ القلب، فرأيت النّبيَّ صلى الله عليه وسلم في المنام كأني واقف مع أخي إسحاق فأخذ بعضُدي، فَقَالَ لي: ثَبتَ مُلْككَ وملك بَنيك بإجلالك محمد بن نصر.
فتوقير ولي الأمر للعلماء هو توقير لما يحملونه من ميراث النبوة، فجزى الله ولاة أمرنا خير الجزاء وأوفاه.
كان آخر لقاء لي بسماحته رحمه الله قبل وفاته بأيام معدودة دخلت عليه بعد صلاة العصر بمدة، وكان عنده من يقرأ عليه في كتاب من كتب الخلاف العالي عند الحنابلة، فقبلت رأسه، ورحب كعادته بكلام أفهمه وإن خفي على بعض الناس، فطلب القهوة، وأمر القارئ أن يكمل قراءته، ثم قال: للقارئ بركة، ثم قال: الشيخ الفريح كيف حالك؟ فقمتُ إليه؛ إذ كان بيني وبينه كرسي، فقلت: الحمد لله بخير وعافية، فقال: تعش معنا، فقلت: رؤيتكم شيخنا كافية عن الفطور والغداء والعشاء، فابتسم فأخذت يده، وقبَّلت جبينه، وودَّعته على أمل اللقاء مرة أخرى، فكان هو اللقاء الأخير من لقاءات الدنيا. مضى رحمه الله بعد أن قضى أكثر من سبعين سنة في تعلم وتعليم، وإمامة وخطابة، ونصح وإرشاد وصبر، نشأ يتيمًا، وفقد بصره، وترقى في العلوم، وتحمَّل الهموم، مرت عليه حوادث وأحداث وأعراض وأمراض، فكان صابرًا ثابتًا، كنتُ أتعجب من سماحته وتحامله على نفسه في الذهاب إلى الحج، وتحمُّله مشاق السفر، حقيقة همة عالية، ونفس إلى الخيرات تواقة، كم انتفع به الطلاب، وأفاد الناس، ثم أكرمه الله بأن توفي مبطونًا؛ إذ قد مات رحمه الله بسبب علة في بطنه، فنرجو أن يكون مات شهيدًا.
وجهود سماحته رحمه الله بستان خصب للرسائل العلمية وغيرها، كجهوده العلمية اختيارًا وترجيحًا وفقهًا، والجهود الدعوية، والأساليب التربوية في خطبه ومحاضراته، إلى غير ذلك مما يمكن كتابته عن إرثه العلمي والدعوي والتربوي.
عَلَيْكَ سَلَامُ اللهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ
وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا
فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُهُ هُلْكُ وَاحِدٍ
وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا
فغفر الله لسماحة شيخنا، وبلَّ بالرحمة ثراه، وجعل الجنة منقلبه ومثواه، وشكر له عمله وجهاده، وصبره واحتسابه، وجعلها في ميزان حسناته، وإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد الله على قضائه وقدره، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
** **
- أستاذ الفقه المقارن في المعهد العالي للقضاء