د. فهد بن أحمد النغيمش
في زحام الحياة وضجيج الأسواق، وفي سكون الليالي وخلوات الأعماق، هناك حرب لا تضع أوزارها، ومعركة لا تتوقف أخبارها، ليست معركة تدار فيها السيوف والرماح بل هي أشد وأنكى وليست معركة الدروع والكفاح بل هي أقسى وأعتى؛ إنها حرب الوجوه على الوجوه، ومعركة الأقنعة التي تُخفي الحقائق المُرة، ترى الوجه الضاحك، وتحته قلب باكٍ، وترى اليد المصافحة، وفيها خنجر فتَّاك، وترى اللسان المادح، وهو للعِرض سفَّاك، زمن صار فيه الظاهر لا يشبه الباطن، وصار فيه القول لا يصدِّق الفعل، داء أصبح ينخر في عظام الثقة، حتى صار الأخ يخاف أخاه، والجار يتربص بجاره، سمّه إن شئت داء الخِداع فهو يتسلل إلى المجتمعات، فيهدم بيوتًا، ويقطع أرحامًا، ويفسد صفقات، ويوقع العداوة بين الإخوان!
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً
ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
لو فتشنا في ميادين حياتنا، لوجدنا لهذا الداء صورًا تُبكي العيون، وتُدمي القلوب، ففي محراب الدين وهو أخطر الميادين ترى من يرتدي ثوب الصلاح، ويتكلم بلسان الدعاة، وهو أشد الناس حربًا على الدين وأهله، يُظهر الغيرة ويبطن الفتنة، يدعو للوحدة ويسعى للتفرقة، هؤلاء هم أحفاد ذي الخويصرة؛ الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، ومنهم من يتظاهر بالنصح والتوجيه وهو يروغ ويراوغ ويكيد لأهل الدين والصلاح، يُشبِهون من قال الله فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} أما في سوق المعاملات: ترى البائع يقسم بالله أن سلعته أصلية، وهي مقلدة، ويُخفي العيب بطلاء برَّاق، أو كلمات معسولة، ويخلط الجيد بالرديء، ليخدع المشتري المسكين؛ قال فيهم الصادق المصدوق: (البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما، مُحقت بركة بيعهما)، فيا لها من بركة ممحوقة، بسبب خديعة ممقوتة!
ومن ساحات الأسواق إلى ميادين الإنترنيت.. ترى الأقنعة الإلكترونية، حسابات بلا أصحاب، ووجوها بلا ملامح، يقذفون المحصنات، ويشوِّهون سمعة الصالحين، وينشرون الإشاعات، ويكيدون لبلادنا، فيناقشون الفقر والعطالة والبطالة، وكأنهم ناصحون وهم في حقيقتهم يدسون السم في العسل، ثم يأوون إلى فراشهم وكأنهم لم يفعلوا شيئًا؛ وقد نسوا قول الجبار: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.
ومن صور الخداع في بناء الأُسَرِ: في عش الزوجية، وأساس الذرية، ترى الخاطب أو أهله يخفون عيوبًا جوهريةً، أو أمراضًا خطيرةً، أو أخلاقًا سيئةً، يُظهرون أجمل ما فيهم، ويُخفون أقبح ما لديهم، وقد نسوا أن هذا غش وخداع؛ وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: (من غش فليس مني)؛ [رواه مسلم]، فإذا تم الزواج، وسقطت الأقنعة، وانكشف المستور، تحول البيت إلى جحيم، وصار الميثاق الغليظ الذي قال الله فيه: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا}، حبلًا واهيًا، وكانت الخديعة معولَ هدمٍ لأساس الأسرة.
ومن صور الخداع في الصداقة والعلاقات: في دائرة الأصحاب، ومن تظنهم من الأحباب، ترى الصديق المخادع، الذي يُظهر لك المحبة ليستفيد من مالك أو جاهك:
يعطيك من طرف اللسان حلاوةً
ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
يجالسك ويؤاكلك ويشاربك ويقسم على محبتك، وفي حقيقته يضمر لك النوايا السيئة وأول من يفرح بزلتك ويتخلى عنك... يقابلك بوجه ويقابل الناس بوجه آخر وهذا هو ذو الوجهين؛ الذي قال عنه النبي -صلى الله عليه وسلم-: (تجدون من شر الناس يوم القيامة عند الله، ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه) فإذا انقضت حاجته منك، رماك وتنكر لك، وكأنه لم يعرفك يومًا؛ يقول الشاعر واصفًا حاله:
لا خير في ودِّ امرئ متملِّق
حلو اللسان وقلبه يتلهَّبُ
يعطيك من طرف اللسان حلاوة
ويروغ منك كما يروغ الثعلبُ
فيا لها من صداقة زائفة، أساسها المصلحة، وعمادها الخديعة!
ومن صور الخداعِ الخداعُ بالتسول: حتى في باب السؤال دخل أهل الاحتيال، ترى الرجل صحيحَ البدن، قوي الجسد، يتظاهر بالمرض أو العاهة؛ ليستجلب عطفك، ويستلب مالك بالسحت والباطل؛ وقد قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من سأل الناس أموالهم تكثُّرًا، فإنما يسأل جمرًا، فليستقلَّ أو ليستكثر) فهو لا يشحذ مالًا، بل يشحذ جمرًا لجهنم.
إلى كل من ابتُلي بهذا الداء، يا من ترتدي قناعًا غير قناعك، وتُظهر وجهًا غير وجهك إلى متى؟ إلى متى ستظل تعيش هذه الحياة المزدوجة؟ ألَا يؤلمك قلبك؟ ألَا تعذبك نفسك؟ ألَا تخاف من لحظة ينزع فيها قناعك على رؤوس الأشهاد، فتصبح مفضوحًا مهتوكَ الستر؟
كن شجاعًا ولو لمرة واحدة، اخلع قناعك بنفسك، وواجه حقيقتك، اصدق مع الله، واصدق مع الناس، والله، إن لذة الصدق وراحة الضمير، لا تعادلها كل مكاسب الدنيا التي جنيتَها بالخداع، كن واضحًا كالشمس، قُلِ الحق ولو كان مرًّا، اصدق ولو كان الصدق سيفوِّت عليك مصلحةً عاجلةً، فإن في الصدق منجاةً وبركةً وخيرًا عظيمًا في العاجل والآجل.