أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
قال (البحتري) (1):
غَرائِبُ أَخلاقٍ هِيَ الرَّوضُ جادَهُ
مُلِثُّ العَزالَى ذو رَبابٍ وهَيْدَبِ
فَكَمْْ عَجَّبَتْ مِن ناظِرٍ مُتَأَمِّلٍ
وكَمْ حَيَّرَتْ مِن سامِعٍ مُتَعَجِّبِ!
وقَد زادَها إِفراطَ حُسنٍ جِوارُها
لِأَخلاقِ أَصفارٍ مِنَ المَجْدِ خُيَّبِ
فأوشكَ أن يهجو (الفتح بن خاقان) في سياق مدحه. فأنْ يقول إنَّ حُسن أخلاقه يزيد لأنَّه مجاورٌ لأصفارٍ من الأخلاق والمجد، إنَّما هو كقول الناس «الأعور في بلد العُميان مَلِك»! وما ذلك إلَّا لانشغال الشاعر بوحدة البيت، وعَشاه عن مراعاة وحدة النصِّ ونَظْمه الكُلِّي.
لكن أ هذا هو السَّبب الحقيقي، أم أنَّ الشاعر كان غافلًا عمَّا يقول أصلًا؟
يشكِّكنا الشاعر في ما قرَّرناه آنفًا؛ من حيث يؤكِّد معناه، مُصِرًّا عليه، بإتباع أبياته السابقة ببيته:
وحُسنُ دَرارِيِّ الكَواكِبِ أَن تُرَى
طَوالِعَ في داجٍ مِنَ اللَّيلِ غَيهَبِ
فإذن، هو يمدح ممدوحه بأنه «أعور في بلد العُميان» بالفعل! وليس هذا، على كلِّ حال، بأشنع من وصف أستاذه (أبي تمَّام)(2) الممدوحَ بأنَّه طَوْع إرادته، فإذا أراد جعله (رِشاء دَلْو)، وإذا أراد كان (القَليب) نفسه:
فَإِذا ما أَرَدتُ، كُنتَ رِشاءً!
وإِذا ما أَرَدتُ، كُنتَ قَليبا!
وأيُّ ممدوح يستسيغ أن يصوَّر في صورة (رِشاء «سطل») أو صورة (بئر)، ولو كان ذلك البئر (جُبَّ يوسف بن يعقوب)؟! على أنَّ الشاعر قد أرهص لهذا البيت ببيتٍ فكاهي، كأنما هو يَسْخَر فيه من نفسه بنفسه، قائلًا:
مُمطِرًا لي بِالجاهِ والمالِ لا أَل
قاكَ إِلَّا مُستَوهِبًا أو وَهُوبا
فالشاعر هكذا يعترف بأنَّه متسوِّلٌ رخيص، ولا يشبع، والممدوح لا شُغل له إلَّا محاولة ملء فيه، إمَّا من عنده، وإمَّا من عند غيره؛ ذلك أنَّه إنْ لم يجِد، تسوَّل له بدَوره، مستوهِبًا من الآخَرين! كيف لا، وهو (قَليب) تارةً، و(رِشاء قَليب) تارةً أخرى، كما نعته الشاعر؟! ولهذه المعركة بين الرِّشاء والقَليب، وتلك الشبكة من الوصوليَّات «أمسَى حبيبٌ حبيبًا»:
باسِطًا بِالنَّدى سَحائِبَ كَفٍّ
بِنَداها أَمسَى حَبيبٌ حَبيبا
ولولا ذلك لأمسَى حبيبٌ أديبًا، حُرًّا عزيزًا، لا عبد الدِّينار والدِّرهم، كغيره من معاصريه!
وكم ذا بقصائد المديح العبَّاسية من اللقطات الكوميدية؟! وهذا موضوع أطروحة قائمة بذاتها.
ويلفتنا هذا إلى مفهوم (النَّظْم) بعمقه وشموله، كما حلَّله (عبد القاهر الجرجاني). ولقد كان يعرقل نظميَّة النصِّ- في وحدته الكلِّيَّة- التمسُّك الحديدي بوحدة البيت، والنظر إلى (التضمين) على أنَّه عيبٌ شِعري. ويعني التضمين هاهنا أن لا ينتهي المعنى بنهاية البيت، بل يرتبط بما بعده. ولهذا فإنَّ (أبا تمَّام)(3) لمَّا قال:
يَغدو مُؤَمِّلُهُ، إِذا ما حَطَّ في
أَكنافِهِ رَحْلَ المُكِلِّ المُلْغِبِ
سَلِسَ اللُّبانَةِ والرَّجاءِ بِبابِهِ
كَثبَ المُنَى مُمتَدَّ ظِلِّ المَطْلَبِ
وقفَ متلقُّو شِعره من الشُّرَّاح لينفوا عنه تهمة التضمين، والعياذ بالله! متكلِّفين القول: إنَّه إنَّما: «انتصب «رَحْلَ المُكِلِّ» على الحال. و«حَطَّ في أكنافه» كلامٌ تامٌّ. ومعناه: نزل بفنائه. فيقول: راجي هذا الممدوح إذا حضرَ في جنابه يَغْدو وهو مَصَبٌّ للمسافر الذي كَلَّتْ راحلتُه ومَحطٌّ لِرَحْلِه؛ لأنه يُغنيه ويُعلِّمُه الكرم.» هكذا تكلَّف (المرزوقي)(4) إبراءً (لأبي تمَّام) من تهمة التضمين.
ولقد كان الشعراء العَرَب يضمِّنون في شِعرهم، وما كانوا يعدُّون ذلك عيبًا، وإنَّما قَعَّد هذا المقعِّدون بعد الإسلام، كما قعَّدوا أباطيل كثيرة. يقول الشاعر الجاهلي (جابر بن حُنَيٍّ التغلبي)(5)، مثلًا:
وقَدْ زَعَمَتْ بَهْراءُ أَنَّ رِماحَنا
رِماحُ نَصارَى لا تَخُوضُ إِلى الدَّمِ
فَيَوْمَ الكُلابِ قَدْ أَزالَتْ رِماحُنا
شُرَحْبِيلَ إِذْ آلَى أَلِيَّةَ مُقْسمِ
لَيَنْتَزِعَنْ أَرْمَاحَنا فَأَزالَهُ
أَبُو حَنَشٍ عَنْ ظَهْر ِ شَقَّاءَ صِلْدِمِ
بل لقد رصْدنا في بحثنا حول «شِعر النقَّاد»(6) ورود التضمين حتى في شِعر الشُّعراء النقَّاد أنفسهم، ممَّن قعَّدوا أنَّ التضمين معيبٌ في القصيدة العَرَبيَّة. وأكثر ما كان يؤدِّي بالشاعر إلى ربط الأبيات بعضها ببعض النسج القصصي في أسلوبه، من نحو قول (هدبة بن الخشرم)(7):
أَلا عَلِّلانِي قَبْلَ نَوْحِ النَّوائِحِ
وقَبْلَ اطِّلاعِ النَّفْسِ بَيْنَ الجَوانِحِ
وقَبْلَ غَدٍ، يا لَهْفَ نَفْسِي عَلَى غَدٍ،
إِذا راحَ أَصحابِي ولَستُ بِرَائِحِ!
إِذا راحَ أَصحابِي بِفَيْضِ دُمُوعِهِمْ
وغُودِرْتُ فِي لَحْدٍ عَلَيَّ صَفائِحِي
يَقُولونَ: هَلْ أَصلَحْتُمُ لِأَخِيكُمُ؟
وما الرَّمْسُ في الأَرْضِ القِواءِ بِصالِحِ!
يَقُولُونَ: لا تَبْعَدْ! وهُمْ يَدْفِنُونَنِي
ولَيْسَ مَكانُ البُعْدِ إلَّا ضَرائِحِي!
وإنْ حافظ الشاعر هاهنا على وحدة البيت، إلى حدٍّ ما، باستثناء البيتين الثاني والثالث.
ثمَّ وجدنا (ابن المستوفي) (8) - بعد أن دوَّنَّا تلك الملحوظة على بيتَي (أبي تمَّام)، وما تكلَّفه (المرزوقي) لنفي التضمين عنه- قد أدلى بتعليقٍ يوافق ما رأيناه. حيث قال: «معنى البيتين واضح، وهو أنه أراد: أنَّ مؤمِّله يغدو سلسَ اللُّبانة، إذا ما حَطَّ في أكنافه رَحْل المُكِلِّ الملغب. و[أمَّا] ما تأوَّله المرزوقي، فبعيدٌ جِدًّا...».
على أنَّ مِن شَرح الشِّعر في تراثنا ما يبدو إفسادًا للنصِّ، وإسفافًا في فهم معناه، وتقييدًا بليدًا لآفاق دلالاته الشِّعريَّة. خُذ مثالًا نموذجيًّا من شرح بيت (أبي تمَّام) (9):
إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ، وأَنا امرُؤٌ
مِمَّن أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ
فماذا تفهم من هذا البيت؟
أمَّا أنا، فأفهم أنَّ الشاعر يقول: «إِنَّ الإِخاءَ وِلادَةٌ»، كما قال هو حرفيًّا. أي أنَّ علاقتك الأخويَّة الصادقة بإنسانٍ هي بمثابة ولادةٍ جديدة لك. ثمَّ قال: «وأَنا امرُؤٌ مِمَّنْ أُواخي حَيثُ مِلْتُ فأُنجِبُ». وهذا كذلك ما قصده حرفيًّا. أي: أنَّه ممَّن حيث ذهبَ في أُخوَّته مع الناس، أنجبَ نفسه مولودًا جديدًا منهم، وأنجبهم من نفسه مواليد جُدُدًا كذلك. فظاهر النصِّ أبلغ وأشعر من ذلك الباطن الذي تكلَّفه بعض الشراح، محاولين التماسه، لاستنزال النصَّ من تحليق سماواته، إلى سوقيَّته وابتذاله العامِّي، الذي لا يُدرِك الشارحُ أرفع منه. وهذا ما سنتتبَّعه في المقال التالي.
**__**__**__**__**
(1) (1977)، ديوان البُحتري، تحقيق: حَسن كامل الصيرفي، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 192/ 24- 26
(2) (1987)، ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق: محمَّد عبده عَزَّام، (القاهرة: دار المعارف)، 1: 171/ 51.
(3) م.ن، 1: 101- 102/ 26- 27.
(4) (1986)، شرح مشكلات ديوان أبي تمَّام، تحقيق: عبدالله الجربوع، (جُدَّة: دار المدني)، 161- 162.
(5) الضَّبي، المفضَّل، (1979)، المفضَّليَّات، تحقيق: أحمد محمَّد شاكر؛ عبدالسَّلام محمَّد هارون، (القاهرة: دار المعارف)، 211- 212/ 22- 24.
(6) يُنظَر: الفَيفي، عبدالله بن أحمد، (2011)، شِعر النُّقَّاد: استقراءٌ وصفيٌّ للنموذج، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)،
(7) (1986)، شِعر هدبة بن الخشرم، باعتناء: يحيى الجبوري، (الكويت: دار القلم)، 89 .
(8) (1989)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 2: 123.
(9) ديوانه، 1: 133/ 15.
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملِك سعود)