د. إبراهيم بن جلال فضلون
الهدوء الذي نرتجف من رقته قد يكون بداية سلام دائم - أو مجرد لحظة تطوى سريعًا في سجل التاريخ ليؤرخ صباحًا قد بدا عادياً على خارطة العالم، حيث اجتمعت عواصم وقادة ورؤى في منتجع مطل على البحر الأحمر «مدينة السلام شرم الشيخ». وبانطباق ظاهري لمزامير العنف، احتفلت وسائل الإعلام بخبر كله أمل للكثيرين: (هدنة، تبادل أسرى، وعد بإعادة إعمار، واجتماع دولي يحاول رسم طريق للخروج من غابة الحروب والألم). لكن السؤال الأثقل على صدري ويفرض نفسه بقوة بعيداً عن طوفان الصور والدعايات: هل طوفان شرم الشيخ يفضي إلى سلام مستدام أم يمر كعاصفة مؤقتة تترك وراءها ركاماً جديداً من الآمال المحطمة؟!. فغزة قد عانى سكانها عامين من القتل والتشريد والدمار، استقبلوا الهدنة بأمل حذر أكثر منه احتفالاً مطمئناً. بعنوان يحمل كلمة واحدة «تعبنا»، قالت مواطنة فلسطينية عائدة إلى أنقاض بيتها، وكلمة «تعبنا» ليست مجرد وصف للحال، بل إعلان حالة إنسانية عميقة عن شعب رغم كل الألم لا يزال يتمنى حياةً بسيطة: (خبز، ماء، سقف يأوي). والهدنة تمنحهم فرصة نفس واحد لا أكثر؛ فرصةً ليجمع الناس شتاتهم ويفكروا في الغد. لكن الغد يتطلب أكثر من توقيع اتفاق وبضع تبرعات. يحتاج إلى خارطة طريق واضحة لإعادة الإعمار، إلى ضمانات أمنية وسياسية قابلة للتنفيذ، وإلى آليات رقابة مالية تردع الفساد وتؤمن وصول الأموال للمستفيدين الحقيقيين.
ما حصل في شرم الشيخ ليس مفصلاً واحداً بل مجموعة مراحل مترابطة: تبادل أسرى (بداية)، اتفاق على ترتيبات أمنية (نزع أو تحويل جزئي للسلاح)، ثم وجود قوة دولية أو أممية للإشراف، يليها مرحلة حكم فلسطيني مؤقت أو إعادة تركيب مؤسسي. كل مرحلة تمثل خانقاً سياسياً وتقنياً. «هل ستسلم حماس سلاحها؟» سؤال إشكالي تتعدد تفسيراته: هل السلاح المقصود سلاح هجومي أم سلاح شخصي؟ ثم: من سيضمن التنفيذ؟ وهذه أسئلة لا تحل في البيانات الإعلامية وحدها.
الرهان الأميركي -المصري- العربي على إجماع دولي قد يسهم في كسر أي مناورة داخلية إسرائيلية -كرهها العالم - تحاول تعطيل المراحل التالية. لكن واقع السياسة الداخلية الإسرائيلية، وحسابات قادة يشعرون بخطر انتخابي أو شعبي، قد يجعل من تنفيذ الشق الأمني صعباً، أو على الأقل معطلاً إذا ما تعارض مع مصالح داخلية. هذا يعني أن شرم الشيخ، ببهجته الدبلوماسية، يحتاج إلى تأمينات فعلية على الأرض لا تصريحات في القاعات الفاخرة.. فهل تكفي الجرأة؟.. عملياً نجح ترامب في تحويل مبادرة إلى حدث دبلوماسي يسجل في التاريخ، مستثمراً نهج «الصفقات» والعلاقات الشخصية أكثر من المؤسسات.. هذا الأسلوب قد يختصر زمن المباحثات، لكنه يحمل مخاطر: إذا غاب البناء المؤسساتي والآليات المشروعة للمراقبة والتمويل، يصبح الإنجاز افتراضياً هشاً. فلا يكفي أن تبرم صفقة إذا لم تستكمل بعقود إعمار شفافة، وخطط تنموية، وجدولة سياسات اقتصادية تعيد دمج القطاع الخاص والمجتمع المدني والسلطة الفلسطينية في عملية الحكم وإدارة الموارد.
لكن الاحتمالات المتوقعة من ثلاثة سيناريوهات:
سيناريو التفاؤل: تنفيذ مرحلي منظم، قوة أممية محدودة، برامج إعادة إعمار شفافة، ومسار سياسي يقود إلى حل تفاوضي طويل المدى. شرطه: التزام دولي طويل الأمد وشراكات تنفيذية واضحة.
السيناريو الواقعي: هدنة طويلة لكنها هشة، اعتمادات مالية جزئية، إعادة إعمار مترقبة، وبقاء أسئلة جوهرية معلقة حول الحوكمة والسلاح.
السيناريو الكارثي: فشل تنفيذ البنود الأساسية أو استفزازات تعيد الحرب إلى دائرة العنف.
والسؤال هنا: ما الذي يجب أن ينجز الآن؟.. أولاً: آليات رقابة دولية وشفافية في تمويل الإعمار. ثانياً: خارطة نزع السلاح بصيغ مرحلية ومحكومة بإشراف عربي -أممي. ثالثاً: خطة اقتصادية معنية بإعطاء الفلسطينيين أدوات الاستدامة: بنية تحتية، تعليم، سوق للعمل، وتمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة. ورابعاً: ضمانات سياسية للحد من تأثير القوى الإقليمية على المسار، مع إشراك فعال للسلطة الفلسطينية وقواها الاعتدالية.
وختاماً: الهدنة في شرم الشيخ تعطينا لحظةً للتنفس، لكنها ليست خلاصاً بحد ذاتها. لا يكفي أن يلتقط الصحفيون الصور ويقفل الزعماء دفاتر الخطب؛ لا بد من تحويل الوعود إلى آليات تنفيذية تعيد للحياة وجهها في غزة. كما قالت المواطنة العائدة إلى أنقاض بيتها: «سأقيم على أنقاضه.. ندعو الله أن يكون هذا الهدوء مستمراً». لنجعل دعاءها توجيهاً عملياً: لا كلمات فقط، بل عقود، خطط، ومساءلة تمنع عودة الخراب. إذ إن السلام الحقيقي يقاس بقدرة الناس على النوم بلا خوف، وعلى أن تصحو أطفالهم على لعبة في ساحة لا على صفارة إنذار.