منصور بن صالح العُمري
حين تقرأ في سير الصحابيات والفاضلات من القرون المفضلة، يأسرك ما فيها من عفةٍ وسترٍ وتواضعٍ وزهد، حتى تكاد تظن أن تلك الصفات مقصورة على زمنٍ مضى وانقضى. غير أني، كلما أعدت شريط الذاكرة إلى عقود خلت، وتفيأت ظلال طفولتي وشبابي في رحاب جدتي حصة، زال عني العجب الذي يثيره مطالعة تلك السير العطرة.
فقد كانت رحمها الله صورةً حيّة لمعاني العفاف، ومثالاً مشرقاً يجمع بين الزهد في الدنيا، والإيثار على النفس، والجود بما في اليد قبل أن تلتفت إليه العين أو يتعلّق به القلب، وكأنها تسربت لمجتمعنا من القرون المفضلة.
لم تكن ترى راحتها في راحة جسدها، بل في أن تؤثر بها غيرها، حتى وإن كانت أشد حاجةً منهم. هادئة الطباع، لا يُسمع صوتها إلا بما يسرّ، فلا جدال ولا صخب، إنما سكينة تفيض على من حولها. وقد تميزت بمهارة فذة في الحياكة، وكانت أول من اقتنى ماكينة خياطة للملابس في الرس. لم تترك يتيماً -ذكراً أو أنثى- إلا وألبسته من صنع يديها ما يبهج قلبه، تجيد الحياكة وكأنها تخرجت من أرقى معاهد الخياطة والتطريز، متفوقةً على أصحاب المهنة أنفسهم.
ولم يقف عطاؤها عند ذلك، بل كانت صاحبة يدٍ طولى في الطهو وإعداد الموائد، سبقت غيرها تعلماً وتعليماً، كما برعت في التوليد والعناية بالنساء في زمنٍ لم تنتشر فيه المستشفيات الحديثة، فتنقلت بين البيوت لتواسي الوالدات وترعى أطفالهن. ولعل من أندر المواقف وأعجبها ما كانت تبديه من شجاعة زمن وباء الجدري، إذ كان الناس يفرّون من المصابات خشية العدوى، بينما كانت هي تطرق أبوابهن، تعتني بهن، تنظف أجسادهن، وتطعمهن بيدها، لا تخشى على نفسها ولا على صغارها، حتى حفظها الله من البلاء، وأكرمها بالسلامة رغم كثرة من باشرت رعايتهن.
وكانت من أصدق من طبّق عملياً قوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}.
فما رأيتها إلا قائمة على سجادتها الزرقاء، تتهجد وتسبّح، ما لم يطرق بابها طارق بحاجةٍ إلى حياكة، أو توليد، أو عونٍ يوميٍ تقدمه بطيب نفس.
وإذا حضرت مجلساً استحقت الصدارة بمقامها، غير أنها تأبى إلا أن تجلس في زاوية، تفرّ من مظاهر الاستعلاء، وتأنف من التصدر، كأن التواضع قد اختُصر في شخصها. سمحة في تعاملها، رحيمة في معاشرتها، عظيمة بأثرها الصامت الذي يترك بصمةً لا تُمحى في نفوس من عاشروها.
لا تعلم بوجودها إلا من أثرها: لا أمرٌ ولا زجر، وإنما عطاء يبهجك ويثير العجب من بركة حضورها.
رحمكِ الله يا جدتي رحمةً واسعة، وجعل الفردوس الأعلى مستقرك، وجمعنا بكِ في جنات النعيم، فذاك هو اللقاء الذي لا انقطاع بعده، ولا وداع يليه وإني أرى تجدد اللقاء بها من نعيم الجنة.