صالح الشادي
نعم، إنها مفارقة توقظ في النفس سؤالاً وجودياً عميقاً: كيف تضيء النجوم في سماء الوطن ثم ننساها ونحن نسير تحت نفس السماء؟ كيف تزهر الشجرة الوارفة ثم تمرُّ الأجيال من حولها لا تدري أنها تظلّل بأغصانها تاريخاً بأكمله؟
في رحاب معرض الرياض الدولي للكتاب، حيث تتنفس المملكة ثقافتها وتاريخها وإبداعها، وقفت كاميرا تبحث عن بصمة، عن ذكرى، عن رمز. كان السؤال عن الدكتور عبدالله الغذامي - ذلك الرمز الذي أثرى المكتبة العربية بأفكاره، وشغل المساحات الفكرية باجتهاداته -عرضت صورته.. ومن يعرف اسمه.. لكن الأجواء جاءت كالصمت في ليلة مقمرة. وجوه شابة تبحث عن ذاكرة، وعيون تتطلع نحو مستقبل، لكن الجسر بينهما يبدو وكأنه قد تعرض للاهتزاز.
إنها ليست قصة الغذامي وحده، بل هي قصة كل من ساهم في بناء صرح الحضارة في هذا الوطن. قصة المؤرخين الذين حفروا في ذاكرة الأمة، والعلماء الذين أضاؤوا بعقولهم مسارات المعرفة، والأدباء الذين نسجوا بخيوط كلماتهم هوية الوطن، والمفكرين الذين أداروا عجلة التقدم بفكرهم الثاقب. هؤلاء جميعاً يشكلون نسيجاً حضارياً لا يكتمل إلا بوجودهم، ولا يتمايز إلا بإبداعاتهم.
إن الحضارة ليست أبراجاً شاهقة ولا طرقاً متسعة فحسب، بل هي قبل ذلك كله عقل مفكر، وقلب ينبض بالإبداع، وروح تبحث عن المعنى. الحضارة هي ذلك الخيط الخفي الذي يربط ماضي الأمة بحاضرها، وجذورها بثمارها. وهي التاج الذي يتوج جهود العلماء والمفكرين والفنانين، أولئك الذين يصنعون من طين الواقع تحفاً خالدة، ويخرجون من رحم المعاناة أملًا متجدداً.
لكننا نعيش مفارقة غريبة: إعلام يزخر بالحدث اليومي، لكنه يغفل عن تسليط الضوء على من صنعوا هذا اليوم. إعلام يلهث وراء اللحظة العابرة، ويتناسى الاستثناء الدائم. وكأننا في سباق محموم نحو المستقبل، ننسى أن نحمل معنا أمتعة الماضي التي تزودنا بالوقود لمواصلة الرحلة.
إن غياب هذه الرموز عن وعي الأجيال الجديدة لا يعني أنهم اختفوا، بل يعني أن الجسور التي تصل بين الأجيال تحتاج إلى ترميم. إنه يذكرنا بأن علينا أن ننزل إلى الأرض، أن نزور هؤلاء الرموز في عقر دارهم، في قراهم ومدنهم، أن نستمع إليهم كما تستمع الأرض إلى حكايات المطر. علينا أن نروي للأجيال قصة ذلك العالِم في معمله، والمفكر في محرابه، والأديب في مكتبته، والمخترع في ورشته.
إن تحويل الإعلام من ناقل للأخبار إلى ناقل للقيم، ومن مبرمج للفرجة إلى مبرمج للوعي، هو تحول حضاري بحد ذاته. إنه الاستثمار الحقيقي في الإنسان، في ذاكرته، في هويته، في اعتزازه بمن ساهموا في صنع مجده.
لنبحث عن هؤلاء الرموز كما نبحث عن كنوز ثمينة، لنحفر في ذاكرة الوطن كما يحفر المنقِّبون عن المعادن النفيسة. لنروي حكاياتهم كما نروي لصغارنا حكايا الأبطال، لأنهم - حقاً - أبطال حقيقيون صنعوا مجداً لا يقل روعة عن مجد المحاربين والفرسان.
فالحضارة ليست حجارة صماء، بل هي قلوب نابضة وعقول مفكرة، وهي ليست مآثر عابرة، بل هي قيم تتناقلها الأجيال. ولن تكتمل صورة الوطن في عيون أبنائه إلا عندما يعرفون مَن قدموا له الغالي والنفيس من علمائهم ومفكريهم ومبدعيهم.
هذه الرموز ليست مجرد أسماء في كتب، بل هي شعلة تنير الدرب للأجيال القادمة. فلنحمل هذه الشعلة بكل اعتزاز، ولننقلها بكل حب، حتى لا يصبح نسيانها جرحاً في جسد الأمة، وحتى لا يكون جهل الأبناء بإنجازات الآباء فجوة في طريق المستقبل.