نجلاء العتيبي
في حياة البشر لحظات فارقة تكشف عن حقيقة النفس، وتضع الإنسان أمام امتحان داخلي لا يراه الآخرون.
ومن أبرز هذه اللحظات ما رواه الشيخ محمد متولي الشعراوي في أحد اللقاءات التلفزيونية، حين ذكر موقفًا مر به بعد انتهاء محاضرة له في جامعة القاهرة.
فقد اجتمع حوله طلاب محبون، امتلأت قلوبهم بالامتنان؛ فاندفعوا يرفعونه على أكتافهم؛ تقديرًا لما قدمه من علم ونصح، كان المشهد مؤثرًا، والهتافات صادقة، غير أن تلك اللحظة المبهجة لم تخل من خطر كامن؛ إذ شعر الشيخ بلمحة غرور تسللت إلى قلبه.
ومهما كان هذا الشعور طفيفًا فإنه كاف ليوقظ الحذر، ويستدعي العلاج السريع.
لم يتردد الشيخ، طلب من سائقه التوقف عند أقرب مسجد، نزل مسرعًا ودخل إلى الحمامات الملحقة بالمكان، وشرع ينظفها بيديه. دهشة من حوله كانت عظيمة حتى ابنه الذي رآه في هذا الوضع لم يتمالك حيرته وسأله عن سبب ما يفعل؟!.
فكان جواب الشعراوي -رحمة الله عليه- واضحًا: «أحسست أن الغرور قد يطرق قلبي فأردت أن أكسره بعمل يذل نفسي، ويعيدها إلى حقيقتها».
هذا التصرف العفوي العميق يبين أن التواضع لا يقتصر على كلمات تقال أو مظاهر خارجية يتقنها المرء أمام الناس، هو جهاد خفي مع النفس، يبدأ من الداخل، ويترجم إلى أفعال عملية تعيدها إلى ميزان العبودية لله، فالمسألة لم تكن تنظيف مكان أو القيام بعمل بسيط، إنما كانت موقفًا تربويًا ذاتيًا يهدف إلى تأديب النفس، وإعادتها إلى موضعها الطبيعي.
العبرة التي يحملها هذا الموقف أن الغرور لا يستهان به، فهو لا يبدأ بكبرياء صاخب، وقد يتسلل في هيئة خاطر سريع أو شعور لحظة؛ فإن ترك بلا مقاومة نما واستقر حتى يتحول إلى صفة راسخة تبعد الإنسان عن صفاء قلبه وقربه من الله؛ ولذا فإن الحكمة أن يعالج فور ظهوره، وأن يواجه بفعل عملي يرد النفس إلى حجمها الحقيقي.
التواضع ليس مجرد سلوك ظاهر أمام الناس، إنه عبادة القلب التي تحمي صاحبه من الانزلاق إلى الكبر، وتجعله يقيس نفسه دائمًا بميزان الحقيقة، ومن تأمل سلوك الشعراوي في ذلك الموقف أدرك أن عظمة العالم ليست في علمه فحسب، إنما في قدرته على محاسبة نفسه ومراقبتها حتى لا يتسلط عليها شعور قد يفسد إخلاصه.
هذه القصة تذكير بأن الإنسان مهما علت مكانته أو كثر محبوه يظل معرضًا للفتنة بما يناله من تقدير، ولا نجاة له إلا بالتواضع الدائم وكسر النفس قبل أن تستكبر.
فهي رسالة تربوية باقية: أن حفظ القلوب من الغرور لا يتم إلا بالمداومة على أعمال تذكرها بضعفها وفقرها إلى الله، حتى تبقى خاشعة مطمئنة.
ضوء: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً} (الإسراء: 37).