د. سطام بن عبدالله آل سعد
كان الهدف المعلن من برنامج «تحوّل الرياض البلدي» هو رفع كفاءة التشغيل وجودة الخدمات، غير أن جوهر التحول الحقيقي يجب أن يتجاوز ذلك نحو هندسةٍ جديدةٍ لإدارة الرياض، تجعل من كل نطاقٍ بلدي وحدةً حيّة تُدار بإدارةٍ ميدانيةٍ واعيةٍ وصلاحياتٍ فورية، تستند إلى بياناتٍ دقيقةٍ تعكس واقعها السكاني والتجاري والخدمي، وكذلك وضعها في البنية التحتية.
فهذه الإدارة الميدانية هي جوهر التحول البلدي الذكي، إذ تُوازن بين خصوصية الحي ورؤية المدينة، ليغدو النظام البلدي شبكةً مترابطةً من المراكز التحليلية الميدانية لا جهازًا مركزيًا ضخمًا يعيق سرعة القرار واستجابة الميدان.
ويُفترض أن يتحول هذا المشروع إلى نموذجٍ للتخطيط المتوازن، يربط بين التوزيع العمراني والكثافة السكانية والحركة المرورية والإنفاق البلدي، لضمان عدالةٍ مكانيةٍ قائمة على الاحتياج الفعلي لا على المساواة الشكلية. فالخدمات يجب أن تتجه إلى حيث تكمن الفجوات لا إلى حيث تتكرر الوفرة، فيتحقق التوازن التنموي بين الأحياء ويُعاد توجيه الموارد وفق أولوية الحاجة.
أما في جانب الحركة المرورية، فإن التحول الحقيقي يبدأ بتبني حلولٍ ذكيةٍ تُدار بالذكاء الاصطناعي، قادرة على التفاعل اللحظي مع حجم الحركة وتعديل توقيت الإشارات بما يحقق الانسيابية ويقلل الانبعاثات واستهلاك الوقود، كما هو مطبّق في مدنٍ مثل سنغافورة ومدريد. ويمكن إعادة استلهام تجربة الجسور الحديدية (الكباري) التي استخدمتها الرياض قبل أربعة عقود، حين نجحت الأمانة في معالجة نقاط الاختناق خلال فتراتٍ وجيزةٍ دون تعطيلٍ للحركة.
وتُعد حوكمة المشاريع البلدية محورًا أساسيًا في هذا التحول؛ إذ لا يُعقل أن تنتهي المدة الزمنية للمشروع فيما لا تتجاوز نسبة الإنجاز 20 %. لذا فإن إلزام المقاولين بلوحاتٍ إلكترونيةٍ ميدانية تُظهر نسب التنفيذ والوقت المتبقي خطوة ضرورية لترسيخ الشفافية وتمكين المواطن من متابعة الأداء، وتحويل الحوكمة من رقابةٍ لاحقةٍ إلى منظومةٍ وقائيةٍ تمنع التعثر قبل وقوعه.
كما أن المشاركة المجتمعية تمثل الامتداد الطبيعي للحوكمة الفعّالة، فالسكان هم الأقدر على تحديد أولويات أحيائهم والإبلاغ عن احتياجاتهم، وعبر تمكينهم من تقييم الخدمات والإسهام في رصد المخالفات يمكن تحويل مكاتب «مدينتي» من نوافذ خدمةٍ إلى مراكز تشاركيةٍ حقيقيةٍ بين المواطن والبلدية.
ولا تكتمل جودة الحياة في المدينة دون بيئةٍ حضريةٍ آمنةٍ تُدار بأنظمة مراقبةٍ ذكيةٍ تدمج الحضور الميداني بالتقنيات الحديثة لحماية الحدائق والمرافق العامة من العبث وسوء الاستخدام، وضمان بقاء هذه المساحات بيئاتٍ آمنةٍ تعكس وعي المجتمع ومسؤوليته تجاه ممتلكاته المشتركة.
ويبقى المسح الميداني الدوري الركيزة الأهم لنجاح التحول البلدي، فهو الأداة التي تكشف التغيرات العمرانية والاحتياجات الفعلية في كل حي، وتتيح للأمانة بناء قراراتها على بياناتٍ حديثةٍ وواقعيةٍ بدل الاعتماد على تقديراتٍ مكتبية والعروض الشكلية. الميدان هو المرآة الصادقة للمدينة، ومنه تُستمد الرؤية وتُبنى الخطط وتُقاس النتائج.
لن يتحقق «تحوّل الرياض البلدي» بالهيكلة أو التسميات الجديدة، بل حين تتكامل أركانه: تخطيطٌ ذكي، وعدالةٌ مكانية، وحوكمةٌ تنفيذية، ومشاركةٌ مجتمعية، وأمنٌ حضري، ومسحٌ ميدانيٌّ مستمر. عندها فقط يمكن القول إن الرياض تُدار بالميدان ولأجل الإنسان، لتصبح نموذجًا سعوديًا رائدًا في الإدارة الحضرية المستدامة.