فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود
عشتها وعاشتني سنين طويلة.. ثلاث مراحل من حياتي.
آخر الخمسينيات والستينيات كانت من أجمل المراحل التي عشتها معها، حيث ذكريات البساطة والعفوية والطيبة، كانت جدة مدينة صديقة لكل من سكنها أو زارها. وكانت أكثر تطورا بحكم جغرافيتها، وتركيبتها السكانية، وطبيعة أهلها. كم كانت جميلة وبسيطة وطيبة تلك الأيام!
السبعينيات والثمانينيات ربما أكون قد بعدت عنها، ولكنها لم تبعد عني فقد كنت أتشوق إلى زيارتها كلما عدت إلى الوطن، ولكنها كانت معي في غربتي حيث عطرها سكن في أهلها من الزملاء الذين كانوا معي في فصول الدراسة زمالة وصداقة وعشرة عمر.
كنت أعود إليها كلما سنحت لي الفرصة، بل كنت أختلق الفرص لكي أعود إليك محبوبتي جدة.
إلى أن ساقني قدري وتحقق حلمي بأن جمعني ومحبوبتي لأن أعيش فيها من التسعينيات حاملاً مسؤولية أمانة خدمة الوطن. كانت المسؤولية سعادة وفخرًا واعتزازا بأن أعطي بكل ما مكنني منه المولى لها ولأهلي فيها. تعلمت وجربت وعملت على تطوير نفسي في تلك السنين محفوفاً بعطائها وصدق الرسالة التي حملتها فيها لكي أعطي دون توقعي لأي مقابل، وأن أؤسس بإيمان في حدود ما اؤتمنت عليه بما يرضي المولى، وولي الأمر في خدمة الوطن والمواطن.
سعادة عطاء، وبهجة لقاء، وغبطة بقاء! كانت تلك الأيام مع محبوبتي، ومازالت بعد هذه الأعوام؛ حيث ربطتني بها علاقة أزلية تسوقني دائماً إلى مسار اللقاء بها وبأهلها، وها أنا أعود لأكمل رسالة بناء بدأت وكنت جزءًا منها منذ ما يقارب العشرين عاماً، جمعتني برجال حملوا أمانة بنائها وتحمل مسؤولية خدمة أهاليها وساكنيها، فقد كان لي شرف خدمتها مع الأمير ماجد بن عبد العزيز، والأمير عبد المجيد بن عبد العزيز يرحمهما المولى بواسع رحمته وغفرانه. كما تشرفت بالعمل مع رجل الهمة والإبداع الأمير المطور خالد الفيصل الذي يغمرني دائماً بكريم أخلاقه وجليل احترامه.
أعود بأمل إكمال حلم تحقق جزء منه؛ تنفيذاً لرغبة سامية حملت أمانتها منذ البداية. كان الطريق طويلا لصعوبات كثيرة واجهت المشروع: مالية وهندسية واجتماعية ولوجستية، ولكن ليس هناك صعب أمام خدمة جدة؛ إذ إن محبيها وعاشقيها أسهموا وأصروا على إنشاء مطل في أجمل موقع يرتبط بتاريخ جدة وأهاليها. نعم تحقق جزء، ولكن الهدف الأساس الذي سمعته مرات ومرات ونحن نعيش تطور المشروع من الإنسان الذي حول الحلم إلى حقيقة - المغفور له بإذن الله - الملك عبد الله بن عبد العزيز، هو - وكان هذا أمله - أن يعطي ويقدم هذا المشروع كمتنفس وواجهة حضارية للإنسان في جدة لعوائلها وشبابها وساكنيها وزائريها دون مقابل. ونراه على وشك أن يتحقق في عهد حزم وعزم، وبتدبير وتحت إدارة مبدع ومطور، ولكن الأهم أنه بأيد سعودية، شباب أعمال من جدة تقدموا للمشروع الأمل بمفهوم البناء والتشغيل والإعادة (BOT) ولمدة 35 عاماً؛ ليسهموا في إعمار وإحياء مدينتهم ورسالتها، راجيا أن يوفقهم الله لإنجازه في أقصر وقت.
الحرف العربي هو المكون الرئيس لمعلم حضاري وثقافي وتعليمي، وترفيهي، يرتقي برسالتنا إلى المكانة التي نحن أهل لها.. ويمكننا من بناء أساس لقيمة مضافة، وتنمية مستدامة لأجيالنا المستقبلية. «حديقة الحروف» هي من سيفعل الفكر والتقنية؛ ليحفز شبابنا للتفاعل بروح الإبداع ويمكنهم من تطويع التقنية بما هو نافع ومجد ومفيد، ثمانية وعشرون مجسماً تحاور بلغة القرآن رسالة جمالية تلمس حواسنا الخمس، بل تتعدى ذلك لتحرك في شبابنا حاسته السادسة بروح الإبداع والابتكار والتجديد، ذلك ما نهدف إليه لنمكن أجيالنا لتعتز وتفتخر بانتمائها لأمة تحمل رسالة للعالمين، وأن بلاد الحرمين الشريفين هي أحق من يجمع الكلمة ويوحد رسالة الأمة، فنحن أبناء هذه المنطقة وهذه المدينة أقرب من يحمل هذه المسؤولية، خصوصاً إذ أوجد المكان والزمان والتربة الخصبة لنغرس فيها ذلك المعلم لينمو ويثمر ويغذي العقول ويوسع المدارك ويعمق مشاعر الانتماء والاعتزاز والافتخار باحتضاننا للغتنا وهي أساس مفهوم رسالتنا.
رسالتنا رسالة الإسلام رسالة السلام، رسالة كرم بها المولى الإنسان ومكانته على سائر المخلوقات، وشرفه لتحمل مسؤولية الحفاظ على هذه الأرض وإعمارها، رسالة (اقرأ) رسالة المعرفة والتفكر والتبصر في عظمة الخالق؛ وتأكيدها بتسخير ما وهبنا من قدرات لتوصيلها بمفاهيمها السمحة، هي دعوة إخاء ومشاركة وبناء.
جدة محبوبتي من أقرب منها اليوم للعطاء والتواصل مع العالم لإحياء هذه الرسالة؟! بمفهوم يرتبط بالأصل ويتصل بالعصر، ويستثمر قدرات أجيال المستقبل لتبني حاضراً يؤسس لعالم نحن من استؤمن عليه. إنها أمانة وشرف أن نسخر بجداويتنا وبكل جدية المساهمة الحقة؛ لتمكين قدرات مبدعيها من رسم أجمل صورة لحقيقة تعبر بآلاف الكلمات وملايين الحروف عن رموز حضارية دائمة - بإذن الله وتوفيقه - تدوم حاملة معانينا السامية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.