سلطان العقيدي
مقدمة
لا يخفى على أحد أن بيئة العمل الحكومية، وخاصة في القطاعات الحساسة مثل الصحة والتعليم والأمن، تواجه ضغوطًا متزايدة في السنوات الأخيرة. ومع ازدياد حجم المسؤوليات، وتنامي التحديات اليومية، أصبح الاحتراق الوظيفي ظاهرة ملموسة تهدد الموظفين أنفسهم، وتؤثر على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
الأطباء والممارسون الصحيون في وزارة الصحة مثال بارز على ذلك. فهم يقضون ساعات طويلة تصل أحيانًا إلى ساعات يوميًا في ظروف صعبة وضغوط نفسية هائلة. ومع مرور السنوات، يجد الكثير منهم أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر: إما الاستمرار في دوامة العمل الشاقة بكل ما تحمله من إنهاك جسدي ونفسي، أو مغادرة الميدان عبر التقاعد المبكر أو الاستقالة.
وفي الحالتين تخسر الدولة جزءًا من خبراتها، ويخسر الموظف توازنه وحياته المستقرة.
فكرة التقاعد المرن
من هنا تبرز الحاجة إلى نظام جديد ومبتكر: نظام "التقاعد المرن" أو "الدوام الجزئي" للموظفين الحكوميين. وتقوم الفكرة ببساطة على السماح للموظف — مثل الطبيب أو المعلم — أن يختار العمل نصف دوام ( ساعات بدلًا من ) مقابل نصف راتب، مع احتفاظه بمكانته الوظيفية واستمراره في تقديم خدماته.
هذا النظام يوازن بين مصلحة الموظف ومصلحة الدولة، فهو لا يرهق الخزينة برواتب تقاعدية كاملة، ولا يرهق الموظف بساعات عمل مرهقة، بل يعطيه مساحة للحياة الشخصية والاستقرار النفسي والاجتماعي.
فوائد تطبيق النظام
1. تقليل الاحتراق الوظيفي:
يمنح هذا النظام الموظف فرصة لالتقاط أنفاسه، والتوازن بين حياته العملية والخاصة. الموظف الأقل إنهاكًا نفسيًا وجسديًا سيكون أكثر إنتاجية وأقل عرضة للأخطاء الطبية أو الإدارية.
2. الحفاظ على الكفاءات والخبرات:
الدولة استثمرت في تدريب وتأهيل موظفيها، وخاصة في القطاع الصحي. من غير المنطقي أن تُفقد هذه الخبرات لمجرد أن الموظف لم يعد قادرًا على تحمل ساعات يومية.
3. وفورات مالية للدولة:
بدلًا من دفع راتب تقاعدي كامل لموظف ترك العمل مبكرًا، يمكن للدولة أن تدفع نصف راتب فقط، وتستفيد من خدماته. هذه المعادلة البسيطة قد توفر مليارات الريالات على المدى الطويل.
4. رفع جودة الخدمات:
الموظف الأقل إجهادًا يكون أكثر تركيزًا واهتمامًا بعمله. في المستشفيات مثلًا، الطبيب الذي يعمل ساعات فقط سيكون أكثر تفرغًا لمرضاه، وأكثر إنسانية في التعامل معهم.
5. المرونة في إدارة القوى العاملة:
إتاحة خيار الدوام الجزئي يساعد الوزارات في توزيع الموظفين بشكل أفضل على ساعات اليوم.
6. دعم الاستقرار الأسري والاجتماعي:
قضاء وقت أطول مع الأسرة ينعكس إيجابًا على استقرار الموظف النفسي والاجتماعي.
7. تقليل نسبة الطلاق بين الموظفات نتيجة صعوبة التوازن بين العمل والمسؤوليات الزوجية
8. البرنامج اختياري وليس إجباري:
الموظف هو من يقرر إذا كان يرغب في الانتقال إلى نظام الدوام الجزئي أو الاستمرار بالدوام الكامل، مما يجعل التطبيق أكثر مرونة ويضمن رضا جميع الأطراف.
التطبيق التدريجي للنظام
ولكي يكون تطبيق النظام واقعيًا ومدروسًا، يمكن البدء بتجربة مبدئية بنسبة 5% من موظفي كل وزارة، بحيث يُسمح لهم بالانتقال إلى خيار التقاعد المرن أو الدوام الجزئي. ومع متابعة النتائج ودراسة الأثر على الإنتاجية والتكاليف، يمكن رفع النسبة تدريجيًا لتشمل عددًا أكبر من الموظفين.
هذه الطريقة التدريجية تقلل من المخاطر، وتتيح للجهات الحكومية الوقت الكافي لتطوير آليات تنظيمية مناسبة، مثل جداول العمل، وأنظمة الرواتب، والتأمينات الاجتماعية، بما يتوافق مع الدوام المرن.
تجارب عالمية ناجحة
في العديد من الدول الأوروبية، يطبق نظام التقاعد الجزئي (Partial Retirement) حيث يُتاح للموظف تقليل ساعات عمله تدريجيًا قبل التقاعد الكامل، مما يضمن انتقالًا سلسًا ويقلل من الصدمة النفسية والاجتماعية للتقاعد المفاجئ.
كما أن بعض الدول مثل أيسلندا ونيوزيلندا اختبرت نظام الأسبوع القصير ( أيام عمل بدلًا من )، وأظهرت النتائج زيادة في الإنتاجية وتقليلًا في معدلات الاحتراق الوظيفي.
التحديات المتوقعة
بالطبع، لا يخلو أي نظام جديد من التحديات. هناك حاجة لوضع آليات دقيقة لتنظيم الجداول وضمان العدالة بين الموظفين.
ينبغي تعديل أنظمة التأمينات والتقاعد لتتلاءم مع طبيعة الدوام الجزئي. كما يتطلب الأمر حملات توعية داخل الوزارات لتوضيح أن الهدف ليس تقليل العمل، بل تحسين جودته وضمان استدامته.
لكن هذه التحديات ليست عائقًا، بل هي خطوات يمكن تجاوزها عبر التخطيط السليم والتدرج في التطبيق.
الخاتمة
إن تبني نظام التقاعد المرن والدوام الجزئي خطوة استراتيجية تسهم في حل واحدة من أكبر مشاكل بيئة العمل الحكومية، وهي الاحتراق الوظيفي. الفوائد واضحة: موظف أكثر صحة وإنتاجية، دولة توفر مليارات، خدمات ذات جودة أعلى، وبيئة عمل أكثر جاذبية واستقرارًا.
ولضمان نجاح التجربة، يكفي أن نبدأ بخطوة عملية: تجربة بنسبة 5% من موظفي كل وزارة، مع التوسع التدريجي لاحقًا. بهذه الطريقة، يمكننا أن نرسم ملامح مستقبل جديد لبيئة العمل في المملكة، يقوم على المرونة، والكفاءة، والإنسانية.