عبدالوهاب الفايز
نعم، إنها القضية الأساسية التي نرى آثارها السلبية تكبر مثل كرة الثلج، ونقصد: إشكالية تمدد ساعات العمل في النشاط التجاري من الفجر إلى منتصف الليل. وهذا يشكل الآن تحدياً كبيراً لـ(استقرار الأسرة السعودية). وفي كل مرة أعود إلى طرح هذا الموضوع أتقدم للقارئ المتابع بالاعتذار لتكرار الحديث عن هذا الموضوع، وربما منكم من يقول: (الخبل ما ينسى سالفته!) نعم، أنتم على حق.. ففي بعض الجنون حكمة وتأمُّل! نخشى أن تضعنا إشكالية تمدد ساعات العمل على حافة المخاطر إذا لم ندرك المخاطر على المرأة والنمو السكاني.
حين وضعت رؤية السعودية 2030 أهدافها التنموية، برز هدفان أساسيان في ظاهرهما الانسجام وهما: الأول رفع مشاركة المرأة في سوق العمل، والآخر تحسين جودة الحياة للأسرة السعودية. هدفان يبدوان منسجمين في التخطيط، ولكن في الواقع وحين التطبيق تتضح المفارقات المعقدة. فالنجاح في الهدف الأول - أي تمكين المرأة اقتصادياً - قد يتحول إلى تحدٍ مباشر للهدف الثاني، إذا لم يُدر التوازن بين العمل والحياة الأسرية بوعي اجتماعي وسياسات مرنة تحمي تماسك العائلة.
ماهي العلاقة بين استقرار الأسرة وتمدد ساعات العمل؟ الجيل الذي عاش حميمية اللقاء العائلية حول مائدة العشاء بعد المغرب يدرك أهمية ما نتحدث عنه. في الماضي القريب، كانت الأسرة السعودية تتميز بإيقاع حياة هادئ ومنتظم. بعد صلاة المغرب، كان البيت يستعيد روحه: مائدة عامرة تجمع الجد والأب والأم والأبناء، يتبادلون الحديث، وتُروى القصص، ويُستعاد الهدوء بعد صخب النهار. تلك المائدة لم تكن مجرد طعام، بل كانت من أدوات التربية في (مؤسسة الأسرة)، فيها تنسج الروابط بين الأجيال، وتنقل القيم والعادات واللغة الدافئة التي تميّز المجتمع السعودي.
أما اليوم، فالمشهد تغيّر تمامًا. تمددت ساعات العمل، خصوصاً في النشاط التجاري حتى منتصف الليل، لتتحول المدن الكبرى إلى فضاءات لا تنام. ومع انشغال الجميع خارج المنزل - بين العمل والمقاهي والأسواق - انكمش الوقت المخصص للعائلة، وتراجع التواصل الوجداني داخل البيوت، فالكل (منغمس) في الجوال. لم يعد الأبناء يجدون في المساء حضن الأم ولا حديث الأب، بل يجدون شاشات مضيئة وصمتًا متبادلًا.
هنا أتذكر قصة أحد السعوديين الذي وجه دعوة العشاء لضيوف من اليابان يشاركون في أحد المعارض في الرياض. لقد استغربوا أن توجه دعوة للعشاء بعد الساعة التاسعة مساء، ولكن دهشتهم كانت أعظم عندما اكتشفوا أن الأطفال ما زالوا في المطاعم عند الساعة العاشرة! بالنسبة لمن يزور السعودية لأول مرة من شعوب الدول الصناعية التي تنام باكراً، هذه المشاهد هي أول الصدمات الثقافية التي يكتشفونها: الأطفال في الفضاء العام عند منتصف الليل!
التحول الاقتصادي الذي نعيشه اليوم مشروع وضروري لمستقبل بلادنا، لكنه يحمل معه تحديًا خفيًا على الأسرة واستقرارها ونموها: السوق دخل كل تفاصيل الحياة. فحين تفتح المقاهي والمطاعم حتى الفجر، وتتحول المجمعات التجارية/ المولات إلى مراكز ترفيه دائمة، يصعب على الأسرة الاجتماع في وقت محدد. ومع أن نظام العمل السعودي يحدد ثماني ساعات يوميًا و48 ساعة أسبوعيًا، إلا أن الواقع العملي في المدن الكبرى يتجاوز ذلك بسهولة إلى 11 أو 12 ساعة إذا أُضيفت إليها ساعات التنقل والزحام.
النتيجة ليست اقتصادية فقط، بل اجتماعية أيضًا. الإرهاق الزمني المستمر يولّد ضغطًا نفسيًا، ويجعل من البيت مكانًا للنوم لا للحياة. ومع زيادة مشاركة المرأة في سوق العمل، والتي تجاوزت 35 % مؤخرًا، أصبح العبء مضاعفًا، لأنها تتحمل مسؤوليات العمل والرعاية معًا، دون أن تتوافر بعدُ سياسات عمل مرنة تخفف هذا الضغط. وهنا تبرز الحاجة إلى رؤية جديدة: تمكين المرأة لا يعني إضعاف العائلة، بل دعمها بسياسات توازن ذكية.
ماذا نتعلم من تجارب الآخرين؟ العالم مليء بالدروس، ففي أوروبا الغربية شجعت الحكومات النساء على العمل الكامل لتعزيز النمو، فارتفعت المشاركة الاقتصادية، لكن النتيجة كانت انخفاض معدلات الخصوبة بشكل حاد. فبحسب بيانات Eurostat، انخفض المعدل في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا إلى نحو 1.3 طفل للمرأة، وهو أقل بكثير من مستوى الإحلال السكاني البالغ 2.1. ولتعويض هذا النقص، لجأت تلك الدول إلى الهجرة، فامتلأت المدن الأوروبية بثقافات متعددة، وبرزت أزمات هوية، وصعدت الحركات اليمينية المتطرفة رافعة شعار (استعادة الأمة). لقد عوضت أوروبا نقص السكان عبر الهجرة، والآن تتوسع المطالبات لإيقاف الهجرة، وترحيل المهاجرين خوفاً على الاستقرار الاجتماعي. هذا هو الدرس الكبير.
أما اليابان، فتبنّت نموذجًا مختلفًا في الشكل، لكنه متشابه في الجوهر. فثقافة العمل الطويل والمثالية المهنية المفرطة جعلت الزواج عبئًا، والإنجاب خيارًا مؤجلاً إلى ما لا نهاية. النتيجة: معدل خصوبة عند 1.3 طفل، وسكان يتناقصون عامًا بعد عام. اليابان اليوم متقدمة تقنيًا، لكنها تتراجع ديموغرافيًا، حتى أصبحت توصف بأنها «أمة بلا شباب».
وكوريا الجنوبية وصلت إلى أقصى درجات المفارقة؛ إذ بلغت الخصوبة 0.7 طفل فقط - الأدنى عالميًا - رغم إنفاق مليارات لتحفيز الإنجاب. فالسوق نجح في خلق فرص العمل، لكنه فشل في خلق الرغبة في الحياة الأسرية!
الولايات المتحدة، عالجت انخفاض الخصوبة بالهجرة. فبين عامي 1970 و2020، ارتفعت نسبة المهاجرين في المجتمع الأمريكي إلى أكثر من 14 % من السكان. صحيح أن ذلك عزز قوة الاقتصاد، لكنه أدخل البلاد في صراع دائم حول الهوية والثقافة. فالهجرة، وإن كانت حلاً اقتصادياً، تحوّلت إلى قضية سياسية مزمنة، غذّت الانقسامات الداخلية وأطلقت حركات شعبوية مثل «أمريكا أولاً».
كل هذه التجارب تُظهر حقيقة واحدة: إضعاف الأسرة يؤدي في النهاية إلى إضعاف المجتمع والدولة، مهما بلغت مستويات النمو الاقتصادي. فالأسرة ليست عبئًا على الاقتصاد، بل هي المؤسسة التي تُنتج رأس المال البشري وتضمن استدامة التنمية.
موضوع تراجع النمو السكاني يبرز كقضية وجودية للكثير من الدول. في نوفمبر المقبل تشهد الدوحة انعقاد مؤتمر القمة العالمي الثاني للتنمية الاجتماعية، ويشكل «فرصةً بالغة الأهمية لتعزيز الالتزامات بالقضاء على الفقر، وتوفير العمل اللائق، وتحقيق الإدماج الاجتماعي. ويستند المؤتمر إلى إعلان كوبنهاغن لعام 1995، الذي أقرّ بأن الأسرة أساس المجتمع، وشدّد على ضرورة تحقيق التوازن بين العمل والأسرة، وإقامة شراكات متساوية داخل الأسر». وفي الاحتفال باليوم الدولي للأسرة الذي يقام سنوياً في 15 مايو ركز هذا العام «على أهمية دمج السياسات المُركّزة على الأسرة في أجندات التنمية الوطنية، وذلك لمعالجة الاتجاهات الرئيسية، مثل التحوّل التكنولوجي، والتحولات الديموغرافية، والتوسّع الحضري، والهجرة، وتغيّر المناخ».
هل نحتاج إلى نموذج سعودي متوازن؟ في سياقنا الوطني، هذا التحدي يأتي في مرحلة انتقالية حساسة. نحن نعيد صياغة علاقتنا بالعمل والإنتاج والاستهلاك في ظل تحولات اقتصادية كبرى. ومع أننا حققنا تقدمًا واضحًا في تمكين المرأة، إلا أن (جودة الحياة الأسرية) لم تُمنح بعد ما تستحقه من اهتمام تشريعي وثقافي. إن استعادة التوازن لا تعني التراجع عن التمكين، بل ترشيده.
من الممكن مثلًا أن تُعتمد أنظمة عمل مرنة تسمح للمرأة - بل وللأسرة عمومًا - بإدارة وقتها بذكاء، كالسماح بالعمل الجزئي أو عن بُعد في قطاعات محددة، وتوسيع مفهوم «العمل اللائق» الذي تؤكد عليه منظمة العمل الدولية ليشمل البعد الأسري والنفسي للعامل. كذلك، فإن تحديد ساعات النشاط التجاري في المدن الكبرى سيعيد شيئًا من الإيقاع الطبيعي للحياة، ويمنح الأسر فرصة لاستعادة عاداتها الاجتماعية المسائية التي كانت تمثل جزءًا من هوية المجتمع السعودي.
هل العودة إلى المائدة.. هي عودة إلى الذات؟
ربما يبدو الحديث عن «مائدة العائلة» تفصيلاً بسيطًا، لكنه في الحقيقة رمز لجوهر حياتنا الاجتماعية السعودية. فحين كانت العائلة تجتمع كل مساء بعد صلاة المغرب، كانت تؤكد يوميًا فكرة التواصل والسكينة والانتماء. غياب هذه اللحظة اليومية أفقد المجتمع السعودي شيئًا من نسيجه الإنساني الدافئ، وأدخل العلاقات الأسرية في دائرة السرعة والتشتت.
المطالبة بإعادة المائدة ليست مجرد حنين للماضي، بل استثمار في المستقبل. الطفل الذي ينشأ في بيت متماسك يصبح مواطنًا أكثر استقرارًا نفسيًا، والعامل الذي يعود إلى بيت متوازن يكون أكثر إنتاجية، والمرأة التي تجد في بيتها دعمًا ومرونة تكون أكثر عطاءً في عملها.
إن التحدي الحقيقي ليس في تحقيق الأهداف الاقتصادية وحدها، بل في تحقيق الانسجام بين الاقتصاد والأسرة، بين الإنتاج والسكينة. فالنجاح في إدماج المرأة في سوق العمل سيكون أعظم إذا رافقه نجاح في إعادة الدفء إلى البيت، واستعادة معنى المائدة المشتركة التي كانت تجمعنا كل مساء. إذا استطعنا أن نصوغ هذا النموذج السعودي المتوازن، سوف نمنح العالم تجربة جديدة تثبت أن التنمية ليست أرقامًا في الناتج المحلي، بل قيمٌ في نسيج المجتمع.
المعالجة الصحيحة لمشكلة تراجع النمو السكاني تبدأ من استعادة الأسرة، لتكون مركز الإيقاع اليومي للحياة. بهذا سوف نحقق أهم أهداف رؤية 2030 من حيث لا نحتسب: أنسنة التنمية، وصون الدفء الإنساني في عالم يلهث خلف الماديات.