د. محمد بن أحمد غروي
تبدو مدن شرق آسيا في ظاهرها نموذجًا للكفاءة والانضباط والرفاه، لكنها تُخفي وراء أبراجها الزجاجية وازدحامها الصامت أزمة وجودية متصاعدة تهدد النسيج الإنساني لمجتمعاتها، وهي أزمة الصحة النفسية والانتحار، فبينما تتباهى هذه الدول بإنجازاتها التكنولوجية واقتصاداتها المتقدمة، تتصاعد في المقابل مؤشرات فقدان المعنى وضغط التوقعات المجتمعية التي دفعت آلاف الشباب إلى الهروب من الحياة نفسها.
تُعد كوريا الجنوبية أكثر بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تسجيلًا لمعدلات الانتحار، إذ تجاوز إيذاء النفس المتعمد الأمراض السرطانية كأحد الأسباب الرئيسة للوفاة بين من هم في أوائل الأربعينيات، وتشير بيانات هيئة الإحصاءات الكورية إلى أن نحو 15 ألف شخص أنهوا حياتهم خلال العام الماضي، بزيادة بلغت 6.5 % عن العام الذي سبقه، أي بمعدل 39 حالة انتحار يوميًّا، وهو رقم يُعد الأعلى منذ 13 عامًا، ويُرجع خبراء اجتماعيون ذلك إلى ثقافة «الإنجاز بأي ثمن»، وضغط التوقعات الأسرية والمهنية، وغياب المساندة النفسية في بيئة يُنظر فيها إلى الضعف النفسي على أنه «وصمة عار».
وفي اليابان، ورغم انخفاض المعدلات الإجمالية للانتحار هذا العام، تظل البلاد الدولة الوحيدة في مجموعة السبع التي يُعد فيها الانتحار السبب الأول لوفاة المراهقين، فقد كشف تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أن الأطفال في اليابان ما زالوا يعانون من تدهور الصحة العقلية، وتعزو وزارة التعليم اليابانية أسباب الظاهرة إلى التنمّر المدرسي، والمشكلات الأسرية، وتضخّم المقارنات بين الأقران، فضلًا عن دور وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح الوصول إلى معلومات عن وسائل الانتحار، بما في ذلك الجرعات الزائدة من الأدوية المتاحة دون وصفة طبية.
ومنذ إقرار قانون مكافحة الانتحار في عام 2006، اعتُبر الانتحار قضية اجتماعية لا شخصية، فأطلقت الحكومة «المبادئ العامة لسياسة الوقاية من الانتحار – نحو مجتمع لا يُجبر فيه أحد على الانتحار»، مع تخصيص ميزانيات لدعم خطط محلية للتوعية وتدريب العاملين والطلاب على الوقاية من إيذاء النفس، وتهدف اليابان إلى خفض معدلات الانتحار بنسبة تتجاوز 30 % بحلول عام 2026 مقارنةً بعام 2015.
شهدت الصين انخفاضًا في معدلات الانتحار بين عامي 2010 و2017، لكنها عادت لترتفع بمعدل سنوي يُقدّر بـ19.6 % وفقًا لآخر الإحصاءات المتاحة. وردًّا على ذلك، أطلق مركز أبحاث صيني نظامًا يعتمد على الذكاء الاصطناعي لرصد المستخدمين الذين يبدون ميولًا انتحارية عبر تحليل منشوراتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وبمجرد رصد كلمات أو تعبيرات تدل على نية الانتحار، يرسل النظام رسائل تشجيعية تحث المستخدمين على طلب المساعدة، بالتعاون مع خطوط الاستشارات النفسية المحلية، ووفقًا لتقرير صحيفة تشاينا يوث ديلي، فإن هذه المبادرة تمثل نقلة نوعية في توظيف التقنية لخدمة الصحة النفسية، وإن كانت تفتح أيضًا نقاشًا حول الخصوصية والرقابة الرقمية.
أما تايوان، فتعاني من تصاعد واضح في معدلات الانتحار بين فئة الشباب، إذ تجاوز معدل الوفيات 17 شخصًا لكل 100 ألف من السكان في عام 2024، ليصبح الانتحار السبب العاشر الأكثر شيوعًا للوفاة، وأرجعت وزارة الصحة والرعاية الاجتماعية الأسباب إلى ضغوط الحياة العصرية، وزيادة معدلات الطلاق، وإدمان الإنترنت، واضطرابات النوم، وردًّا على ذلك، أعلنت الحكومة عن مبادرة غير مسبوقة تقضي بالسماح للطلاب بالحصول على «إجازة للصحة النفسية»، اعترافًا صريحًا بأن الاكتئاب والقلق ليسا ضعفًا، بل حالة تستحق الدعم المؤسسي والرعاية الوقائية.
تتجه دول شرق آسيا اليوم نحو إدماج برامج الوقاية من الانتحار ضمن منظوماتها الاجتماعية والصحية بوصفها أولوية وطنية، لا قضية فرعية، حيث عيّنت حكومات المنطقة «مسؤولين عن الوقاية من الانتحار» على مستوى المحافظات، وأطلقت خطوط مساعدة رقمية تعمل بتقنيات الذكاء الاصطناعي، إلى جانب إجراء فحوصات دورية للصحة النفسية للشباب والعاملين في المؤسسات الحكومية، وفي اليابان وكوريا وتايوان، أُدرجت التوعية بالصحة النفسية في المناهج الدراسية والتدريبات الإلزامية، كجزء من رؤية شاملة تهدف إلى بناء مجتمعات أكثر توازنًا وإنسانية.
إنّ قصة شرق آسيا مع الانتحار ليست حكاية عن الموت فحسب، بل عن المجتمعات التي تطلب من أبنائها الكمال حتى الإنهاك، ففي خضم السباق نحو التقدم الصناعي والتكنولوجي، تراجعت العناية بالروح خلف جدران الإنتاجية والمقارنة الاجتماعية، واليوم، تدرك حكومات المنطقة أن الاستثمار الحقيقي لا يكمن في ناطحات السحاب والروبوتات فحسب، بل في سلامة الإنسان نفسيًّا، لأن بقاءه متوازنًا هو الضمان الوحيد لاستمرار نهضتها، فالتنمية التي لا تحمي الإنسان من ظله، ستفقد بريقها مهما بلغت من ازدهار.