منال الحصيني
تخيَّل أنك تجري مكالمة هاتفية مع شخص مقرب إلى روحك، والحديث يسير بانسجام تام وكأن المسافة بينكما قد ذابت.
ثم فجأة... ينقطع الصوت.
تنظر إلى هاتفك والضجر يكتسي ملامحك وربما خالطها شيء من الحيرة، فأنت تسمع صدى كلماتك يتلاشى بصمت وكأن ذلك الصوت كان يملأ المكان لا مسامعك.
هذا المشهد الحسي يطابق الشعور الداخلي بغربة الروح التي تتسلل إلى قلبك ليس فجأة ولكن بهدوء، حيث تراكم الأحداث الموجعة واللحظات الصغيرة وصمت الحوار وربما الأماكن التي اعتدت عليها لم تكن تبعث لك شعور الانتماء كسالف أوانها.
كل ذلك جعل قلبك يفقد شيئاً لم تكن مدركاً له من قبل.
هنا يتجلى ما قصده محمود درويش حينما قال: «الغربة هي أن تسافر بعينيك بين الوجوه الحاضرة فلا يبصر قلبك سوى ذلك الوجه الغائب».
فغياب الآخرين والبعد المكاني ليس هو فقط الغربة، لكنها قد تكون بغياب جزء منك وشعورك بالانفصال عن ذاتك التي ألفت وجودها، هي حالة وجدانية ليست مجرد بعد جغرافي مكاني بل أعمق من ذلك. هنا تتقاطع غربة الروح مع غربة المكان.. كونك قد تكون في بيتك أو عملك وربما في الطريق ذاتها التي اعتدت على المرور بها مراراً وتكراراً.
ومع ذلك تجد أن هناك شعوراً بعدم الانتماء وكأن اتصالك لكل ما سبق لم يعد كما كان وبشكل دقيق بدأ يتلاشى، فالوجوه التي اعتدت رؤيتها يومياً لا تلامس قلبك وربما الكلمات التي تتناثر من حولك لم تعد تجد لها معنى.
واللافت أن الأماكن التي اعتدتها وألفتها لم يعد لديها شعور الطمأنينة التي تستشعرها سابقاً.
كل ذلك أصبح رمادياً وشاحباً فيه من الغرابة ما يجعلك تنتقل بين كل هذه المشاهد اليومية المألوفة بلا روح.
فالغربة الحقيقية ليست في بعد المسافة ولا بحقيبة سفر نملأها بملابسنا ونغلقها، ولا هي بطائرة تُقلنا بعيداً عن الوطن ولا بجواز سفر يحتم مرورنا بين حدود الدول، ولكنها بانقطاع الصلة بينك وبين نفسك، عن أحلامك التي تمزقت حينما كنت في نفسك القديمة وعن قلبك الذي لم يعد يعرف أين يضع مشاعره.. هي أشبه بمسافة بين ما نعيش وما نتمنى أن نعيشه وما نود أيضاً أن نكون عليه.
غربة الروح تبدأ بالابتعاد عن ذواتنا ونغرق في روتين يومي ونفقد التواصل بأشخاص حقيقيين ذلك ما كان سيعطي حياتنا معنى، فالروح تشعر بالغربة حتى في الأماكن التي كانت مألوفة وفي وسط زحام الأشخاص، فتمتزج الوحدة بصمت داخلي عميق ولكن لابد أن نعيد لها الحياة بالتوقف لبرهة والالتفات لمشاعرنا وأفكارنا وممارسة ما نحب لنُعمق علاقتنا الحقيقية بذواتنا ونعيد ترتيب أهدافنا والكثير من قيمنا، فمن لا يجيد الاستماع لنفسه حري به أن ينهار داخلياً، فغربة الروح أشبه برحلة داخلية لا خارجية يحلق بها الصمت والغياب التدريجي عن كل ما كان يربطك بالحياة.
إن أدركنا ذلك فهمنا كيف نعود لذواتنا والخروج بها من غربة الروح.
ولعل الحل في سؤال بسيط يفتح آفاقاً للروح.
(هل أنا حاضر معي؟).