عبدالعزيز بن عليان العنيزان
عند الإمعان في سلوك إسرائيل وما تقوم به من أعمال عدوانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتحديد المجازر المرتكبة بحق قطاع غزة خلال السنتين الماضيتين، وتصعيدها لهذا الصراع وتوسعة رقعته الجغرافية حتى وصل لبعض الدول المجاورة، يتضح بأن تل أبيب أرادت إرسال إشارات لجيرانها وللعالم على مقدرتها الدخول في جبهات قتال متعددة في آن واحد، باعتبارها تمتلك لجيش مدرب ومنظم وأحد أقوى جيوش المنطقة باستطاعته إحداث أكبر قدر من التخريب والدمار لخصومه مع تعرضه للقليل من الخسائر البشرية والمادية.
وتجعلنا هذه الأحداث نبحث بشكل أوسع في احتمالية تحقيق سلام دائم في الشرق الأوسط في ظل هذه التصرفات العدائية، ولا سيما التشكيك في نيتها إزاء ترسيخ ركائز السلام المؤدية إلى تحقيق مبدأي حسن الجوار وحفظ السلام مع محيطها الجغرافي.
تتسم إسرائيل باتباعها لعقيدة سياسية متينة وذات تأثير واسع على المستويين الحكومي والشعبي، ولا تكتفي بذلك بل امتد تأثير هذه الأيدولوجيا ليصل إلى أهم الدوائر السياسية العالمية عبر جماعات الضغط اليهودية صاحبة النفوذ الناجح في بناء التحالفات الثنائية الوطيدة والحفاظ عليها، وكسب تعاطف المجتمع الدولي غير المحدود مع المجتمع الإسرائيلي على خلاف ما تمليه الحقائق والوقائع، ولا يستغرب مما توصلت إليه من إبراز الرواية الإسرائيلية ومبرراتها في المحافل الدولية مع سيطرتها على أبرز المنابر السياسية في المجتمع الدولي، معتمدة في هذا النهج على توظيفها لأمثل الأدوات في سياستها الخارجية لتعزيز موقفها في مختلف الظروف.
من جانب آخر فإن العقيدة السياسية الإسرائيلية تقوم على مبدأ الاحتلال الاستيطاني، وهو من أشد نماذج الاحتلال تدميرا وطمسا لهوية السكان الأصليين على المدى الطويل، فمن خلال استقراء التسلسل الزمني للأحداث في فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر ولغاية وقتنا الحاضر، يتجلى بشكل واضح الخطوات المتبعة من الكيان الصهيوني لضمان تطبيق أساليب الاحتلال الاستيطاني بشكل ممنهج وتدريجي.
فسنة تلو الأخرى تزداد المستوطنات عبر القيام بتدمير منازل الفلسطينيين وطردهم منها، وبشكل دوري تجدد الدعوات ليهود العالم لإطلاق هجرات جماعية نحو إسرائيل كواجب ديني لدعم فكرة بناء وطن موحد يجمع كل يهود الأرض. والأسلوب الأكثر وحشية هو رفع حدة العنف والإجرام الإسرائيلي ضد المدنيين العزل من أطفال ونساء وشيوخ، وما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 برهان على أنها عملية متعمدة تهدف إلى قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، ولا يستغرب بأن عدد الضحايا من الشهداء تجاوز 68 ألفا، غير تدميرها لأكثر من 90 % للبنية التحتية في القطاع، بالإضافة إلى إن إسرائيل تزيد مطالبها الاحترازية بشكل مستمر في المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، والأهم من ذلك فإن كلمة تنازلات غير موجودة على الإطلاق في قاموس المفاوض العبري.
وبفضل هذه السياسات المحكمة فإن إسرائيل -وبكل أسف- تسير نحو مرادها النهائي فهي قامت ببناء دولة من العدم، وامتلكت منظومة عسكرية سواء هجومية أم دفاعية تضاهي بها بعض القوى العسكرية البارزة في الساحة الدولية، وكما لديها جهاز استخباراتي متقدم ومتغلغل في عمق بعض الأنظمة الإقليمية. وعلى الجانب الاقتصادي رغم حالة التباطؤ التي تمر به وتراجع إيراداتها مؤخرًا، إلا أنها تمتاز بنظام اقتصادي متنوع من نواحي رأس المال والصناعة والتكنولوجيا المتقدمة والمهارة اللازمة، ومن ناحية أخرى امتلاكها لاحتياطي وفير من الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط.
وخلاف هذه المقومات للكيان الصهيوني فإن هشاشة الدولة الفلسطينية وانقساماتها الداخلية بين السلطة والفصائل ساعد بشكل أو بآخر من فرض الهيمنة الإسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية. وكيف لا فالفكرة السياسية القائلة بفرق تسود تفسير حقيقي على أن الانقسام الفلسطيني تجاه قضية وطنية موحدة هو بداية انتصار العدو. أما النخبة السياسية في تل أبيب ومع تطور الأحداث في هذه القضية المصيرية، تشكّل لديهم إيمان تام بأن فكرة إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 غير قابلة للتطبيق. وكما أن حل الدولتين والاعتراف بدولة فلسطينية حتى لو لم تتعد حدود رام الله يعتبرونه تنازلا سياسيا، رغم أنها ستكون دولة حبيسة وصغيرة جدًا ومطوقة كليا بالسيادة الإسرائيلية. أما فيما يتعلق بعودة المهجرين الفلسطينيين من حول العالم إلى أراضيهم فبنظرهم لا تمت للحقيقة بصلة وقد استبدلوها بفرضية الوطن البديل.
لذا يمكننا الاستنتاج بأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي مستمر لحين قيام الدولة العبرية بشكل متكامل حسبما هو مخطط لها، وحتى في حال حدوث هدنة سياسية أو معاهدة سلام أو اتفاق لوقف إطلاق النار مهما اختلفت المسميات فهي إجراءات مؤقتة وليست بدائمة، وسيكون هناك تصعيد من وقت لآخر بغض النظر عن الشرارة التي ستشعل هذا التصعيد، وبناء المزيد من المستوطنات مع رفع أعداد التركيبة السكانية من عرقيات يهودية بشكل مستمر، ولا نغفل عن احتمالات متوقعة لتمدد هذا الصراع في الإقليم على حسب المستجدات السياسية من خلال استغلال أي زعزعة أمنية مجاورة باستخدام أداة ملء الفراغ السياسي تحت أنموذج حماية الأقليات.
وختاما هناك هاجس مستقبلي مخيف يحيط القضية الفلسطينية وهو أن الأجيال القادمة التي ستشهد آثار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في المستقبل هل ستسأل بكل حسرة أين كانت فلسطين؟ فهل سيكون هناك سلام دائم في الشرق الأوسط؟