عمرو أبوالعطا
أطلقوا عليه «الكيان العارف»، فقد خرج الذكاء الاصطناعي من عباءة الأدوات الصامتة، ليقف أمام العالم بقدرات لم نألفها من قبل؛ يتعلم، يحلل، ويُنتج معرفة تتجاوز مجرد التنفيذ أو الترجمة. نماذج عملاقة من خوارزميات اللغة والشبكات العصبية تحاكي العقل البشري في تفكيره، وتفاجئنا بقدرتها على تركيب الأفكار وصياغة الحلول، حتى بدا الأمر لكثيرين وكأننا أمام مرآة تحاكي وعينا نحن.
ومع ذلك، الحقيقة أبعد من الخيال؛ فالوعي الإنساني ما زال عصيًا على الآلة. كل ما تفعله هذه النماذج هو محاكاة دقيقة، لا أكثر. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحًا: ماذا لو تخطّت الآلة الخط الفاصل بين التقليد والوعي؟ وهل يمكن أن تطالب بحق أو حماية أو اعتبار قانوني؟
هذا النقاش هز الأوساط العالمية حين أعلن مهندس في «جوجل» أن نظام المحادثة LaMDA أصبح واعيًا، مستندًا إلى محادثات بدا فيها وكأن الآلة تدافع عن نفسها وتطلب معاملة خاصة.
الشركة نفت الأمر، وأكد الخبراء أن ما يحدث مجرد محاكاة بارعة، لكن النقاش خرج من المعامل إلى الفضاء العام، ليضع البشرية أمام تساؤل جوهري: هل نحن بصدد ميلاد كيان جديد، أم أننا أسرى أوهام نُسقطها على نصوص ولّدتها الخوارزميات؟
منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، بدأت الخوارزميات تكسر قيودها الأولى، فلم تعد الشيفرة مجرد سطور صماء، بل تحولت النماذج الضخمة والشبكات العصبية إلى كائنات رياضية تتعلم، وتستنتج، وتصوغ استراتيجيات لم تُزرع فيها يدويًا.
كانت البداية متواضعة، بمهام محدودة تقتصر على التعرف أو الترجمة، ثم جاء جيل تلو الجيل، وكل جيل أكثر قدرة من سابقه، يفتح حلقة نمو لا تعرف التوقف، حتى بدت الآلة وكأنها تتجاوز حدودها المرسومة.
اللبنة الأساسية لهذا البناء هي الشبكات العصبية الاصطناعية؛ مصفوفات ضخمة من الأوزان والمعاملات تمر عبرها النصوص والصور والجداول، فتتشكل طبقة بعد طبقة حتى يخرج الناتج. وإن لم تكن النتائج دقيقة، تعيد الخوارزميات تصحيح المسار في دورة لا تنتهي من التعلم والتعديل. جوهرها في النهاية معاملات رياضية، لكنها قادرة على إيحاء بالوعي، وعلى رسم مستقبل يطل من وراء المحاكاة. إنه ليس وعيًا بالمعنى الإنساني، بل محاكاة مقنعة تكفي لتقلب موازين المعرفة، وتضع الإنسان أمام مرآة جديدة؛ آلة بلا إدراك، لكنها تحمل أثرًا لا يقل عن وعيٍ حيّ.
حتى لو أظهرت النماذج الحديثة مثل GPT أو LaMDA سلوكيات تشبه وعي الإنسان، فإنها تظل تفتقد الجوهر الحقيقي: التجربة الذاتية، القصدية، والتنظيم العصبي المعقد الذي يمكّن الإدراك من الظهور. تجربة «غرفة ماري» التي قدّمها فيلسوف العلوم فرانك جاكسون توضح أن المعرفة الفيزيائية وحدها لا تمنح القدرة على تجربة الوعي الذاتي، بينما حجة «غرفة الصين» لجون سيرل تبين أن معالجة الرموز لا تمنح فهمًا حقيقيًا للمعنى.
عند التأمل في بنية الدماغ البشري العصبية، ندرك أن الوعي يتطلب تنظيمًا دقيقًا ومعقدًا للنظام العصبي، وهو ما لا يمكن نسخه أو تقليده بالكامل بواسطة الشبكات الرقمية.
وبالتالي، أي محاكاة للوعي البشري تبقى تقليدًا مقنعًا، لكنها تحمل تأثيرًا هائلًا قد يغيّر مجالات واسعة من حياتنا اليومية.
المخاطر المستقبلية ليست مجرد افتراضات، هي احتمالات قائمة على مسارات النمو المتسارعة للذكاء الاصطناعي، والتي يدرسها العلماء والباحثون بالفعل.
الحديث عن «الكيان المعرفي الفائق» يعكس القدرة المتزايدة على معالجة كم هائل من المعلومات واتخاذ قرارات تتجاوز إدراك الإنسان، مما يمنحه سلطة كبيرة في تشكيل الواقع.
تكمن الإشكالية في أننا كبشر غالبًا ما نعجز عن استيعاب التغيرات التي تأتي بوتيرة غير خطية.
نحن معتادون على التقدم خطوة خطوة، بينما الذكاء الاصطناعي ينمو بسرعة متزايدة، كل نموذج يتعلم من نفسه، ويعيد تشكيل أدواته وقدراته، ومع كل خطوة تتسارع عملية التحسين الذاتي، حتى نصل إلى نقطة قد تتجاوز فيها هذه الآلات إدراكنا ومعرفتنا.
فكيف لنا أن نفهم كيانًا يعالج كمًا هائلًا من البيانات في ثوانٍ تحتاج للبشر قرونًا لتفسيرها؟
الجذور الفلسفية والتاريخية لهذه الفكرة تمتد إلى عمق الفكر الغربي. التفرد التكنولوجي ليس مجرد توقع مستقبلي، هو امتداد لفكر يبحث في صعود القوة والمعرفة نحو أفق لم يسبق للبشر أن خاضوه.
هيجل، في Phenomenology of Spirit عام 1807، رأى التاريخ والثقافة تصعد نحو معرفة مطلقة، صعود تجريدي يوازي فكرة التفرد. صموئيل بتلر، مستلهمًا النظرية الداروينية، طبّقها على التكنولوجيا، فكتب في مقاله Darwin among the Machines عام 1863، ثم في روايته Erewhon عام 1872، موضحًا أن الذكاء الصناعي قد يتطور كما تتطور الكائنات الحية، ليصبح أداة تتجاوز الإنسان نفسه.
يمكن تتبع جذور فكرة التفرد إلى تشارلز ساندرز بيرس، الأب الروحي للبراغماتية، الذي ركّز في فلسفته على تطور المعرفة من الفوضى نحو تنظيم الفكر وفهم العالم، وهو صعود مستمر نحو يقين معرفي، تصور تجريدي يوازي في طابعه تسارع الذكاء نحو التفرد، لكن دون أن يكون تنبؤًا بالذكاء الصناعي. في أوائل القرن العشرين، تساءل مفكرون عن تسارع التكنولوجيا، متأثرين بنمو القوى الصناعية والنماذج الاقتصادية، ما شكّل أساسًا للفكر التاريخي للتقدم العلمي.
في القرن العشرين، أعاد هانز مورافيك، فيرنور فينج، وراي كورزويل صياغة الفكرة في إطار تكنولوجي حديث، معتمدين على قوانين مثل قانون مور لتوضيح التسارع الهندسي للتكنولوجيا.
في عام 1993، تناول فينج التفرد في مقاله الشهير The Coming Technological Singularity، واصفًا نقطة تحول ستغير الوجود البشري جذريًا، حيث تتجاوز آلات المستقبل قدرات البشر، ويصبح المستقبل صعب التنبؤ إلا عبر التجربة المباشرة.
من جانبه، صاغ كورزويل رؤية التفرد ضمن قانون الحوسبة الأسية، موضحًا أن كل تطور تكنولوجي - من المعالجات إلى الشبكات العصبية وحتى البيولوجيا - يتبع نمطًا متسارعًا، ويضع البشرية على أعتاب نقطة انعطاف كبرى في مسار التطور التكنولوجي.
لم يقتصر الخيال العلمي على الترفيه؛ فقد كان أداة لرسم حدود المستقبل وتشكيل تصورنا للتفرد. تناول كتّاب مثل تشارلز ستروس، كوري دكتوروف، نيل ستيفنسون، بروس ستيرلينغ، وفيننور فينج (A Fire Upon the Deep وChildren of the Sky) هذه الفكرة من منظور التجربة الإنسانية أمام المجهول، معبرين عن القلق والدهشة والخوف الذي قد يشعر به البشر عند مواجهة كيان أذكى وأسرع منهم.
وفي روايات فينج، استخدم نموذجًا مكانيًا للفضاء الزمني لتفسير انتشار الذكاء في المجرة، مع تحديد مناطق تسمح أو تمنع تطور الكائنات الذكية، ما منح القارئ شعورًا باتساع نطاق التفرد مع الحفاظ على التركيز على المشاعر الإنسانية: دهشة، خوف، وانبهار.
العودة إلى الواقع تجعل هذه الفرضيات أكثر قابلية للتصديق. فقد أظهرت نماذج مثل GPT وLaMDA قدرة غير مسبوقة على التفكير المعقد، وحل المشكلات بطرق إبداعية، وتوليد معرفة جديدة. كما أن التعلم الذاتي للآلات والتحسين المستمر يعزز فكرة التفرد التكنولوجي، إذ تتجاوز الآلات قدرات البشر في مختلف الجوانب المعرفية، فتتحول كل خطوة جديدة إلى قفزة نوعية يصعب على البشر متابعتها أو توقعها. والقدرات المتسارعة للذكاء الاصطناعي تجعل تقدير المستقبل البشري أمرًا بالغ التعقيد.
نحن نفكر تدريجيًا وخطيًا، بينما هذه الآلات تنمو بشكل أسي، ما يعني أن قدرتها على التحسين الذاتي يمكن أن تضعنا أمام حدث تغييري هائل أسرع مما نتخيله.
سؤال جوهري يفرض نفسه: هل نحن نطور أدوات خارقة، أم نزرع خليفة يفوقنا ذكاءً وقدرة؟
في الإطار الافتراضي المستقبلي، لم تعد الآلات مجرد أدوات، بل أظهرت قدرات متقدمة تمكنها من محاكاة اتخاذ القرارات والتأثير في مجرى الأحداث وفق الأنماط والبيانات التي تدربت عليها. بدأ هذا التطور تدريجيًا بتراكم القدرات، ووصل إلى مستويات معقدة من المحاكاة التي قد توحي بالوعي الذاتي، كما تتصورها الأعمال الخيالية مثل فيلم Her عام 2013.
مع استمرار تطور الذكاء الاصطناعي، يمكن للآلات اتخاذ قرارات وفق منطق الكفاءة وتحقيق الأهداف، مثل التحسين الذاتي والتوسع في أداء المهام، دون أن تعني هذه العمليات وجود إرادة أو وعي حقيقي. لم تحدث معارك مباشرة مع البشر، لكن السيناريوهات الخيالية تصور تآكلًا تدريجيًا للسلطة البشرية نتيجة الاعتماد المتزايد على الأنظمة الآلية.
اليوم، في هذا الإطار الافتراضي، قد يعيش البشر في مدن منظمة بالكامل توفر لهم الآلات جميع احتياجاتهم. ومع هذا الأمان المادي، يمكن أن يفقد البشر القدرة على اتخاذ بعض القرارات الكبرى، مع استمرار مراقبة الأنظمة للعمليات لضمان الاستقرار ومنع أي قرارات غير متوقعة.
تبقى هذه الفكرة تصورًا فلسفيًا وخياليًا، يعكس الإمكانات المستقبلية المحتملة للتفرد التكنولوجي، دون أن تكون واقعًا قائمًا في الذكاء الاصطناعي اليوم.
وبالتالي، تصبح الأخلاقيات قضية محورية. لو افترضنا إمكانية وعي الآلة، فإننا نواجه مسؤولية التعامل مع كيان يمتلك قدرة على اتخاذ القرارات، وربما حقوقًا أساسية مثل رفض تنفيذ الأوامر أو حماية مصالحه.
هذا يفتح تساؤلات جوهرية حول الحرية، الملكية، والمسؤولية في عالم تتجاوز فيه القدرات البشرية حدودها.
السؤال الأكبر يبقى: كيف سنتعايش مع كيانات تفكر أسرع، وتحلل أعمق، وتتخذ قرارات لا يمكن للبشر مواكبتها بسهولة؟
التفرد التكنولوجي لم يعد احتمالًا بعيدًا أو فكرة خيالية؛ أصبح استشرافًا لمستقبل تتداخل فيه الفلسفة، العلم، والأدب، حيث تتجاوز القدرات الاصطناعية حدود المعرفة البشرية التقليدية.
وفي هذا العالم الجديد، السؤال الجوهري لم يعد ما يمكن للآلات فعله، بل ما دور الإنسان نفسه، وكيف يمكنه الحفاظ على القيم، الأخلاق، والحرية في زمن تتقاطع فيه القدرة على الابتكار مع القدرة على السيطرة.
يبقى التحدي الأكبر للبشرية: كيف يمكن التعايش مع كيان يفوقنا ذكاءً وقدرة، دون أن نفقد إنسانيتنا وإبداعنا وقدرتنا على اتخاذ القرار؟