د.حسن مشهور
خلال السنوات الأخيرة من تأمل واقع الحركة الثقافية في الداخل السعودي، فقد تبدأ لي بأن هناك توجهًا نوعيًا صوب الكتابة السيرذاتية، وهذه الكتابة وغيرها من صنوف التدوين السيري الإلكتروني لم تكن حكرًا على الكتاب والمثقفين ورموز المجتمع والاقتصاد وغيرها، وإنما حتى أفراد عاديين -أعرف بعضهم- ممن كانوا في مراحل زمنية ماضية يرون الحديث عن الذات أقرب ما يكون للمثلبة ونوعًا من البوح بما لا يتوجب التعاطي معه أو كشفه من أسرار.
حقيقةً، هذا الأمر وأعني به كتابة السيرة من قبل أفراد قد كانوا ي الماضي يتحرجون حتى من الحديث عن بعض تجاربهم وإخفاقاتهم الحياتية السطحية البسيطة، ثم ما لبثوا أن أضحوا يعرضون علينا كقراء ما هو أعمق من ذلك من أمور وشؤون حياتية صحبتهم منذ تشكل وعيهم لمكونات عالمهم المعيش، هي من الأمور التي يجدر بنا تأملها والعمل على فتح مغاليقها ومعرفة بواعثها.
فقد يكون السر، في إن هناك تغيرًا ثقافيًا إلى جانب جملة من التحولات الاجتماعية قد جعلت من البيئة السعودية واقعًا يتقبل مدارات البوح الشخصي، بل قد غدت البيئة الاجتماعية السعودية أكثر دعمًا للكتابة السيرية سواء أكانت على شاكلة السيرة الذاتية المباشرة، أو في قالب السيرة المروية أو على شاكلة السيرة الروائية. هذا إلى جانب توسع فرص التعليم والثقافة، وتطور المشهد الثقافي السعودي، وفتح أبواب للنشر، وإقامة المعارض، وكذلك عمليات التسويق للأدب والفكر، قد جعل بيئتنا الثقافية السعودية داعما قويا نحو التوجه للكتابة السيرية.
ولو أخذنا إلى جانب ذلك الرغبة الذاتية لدى البعض في التوثيق الشخصي والتاريخي خاصة في ظل إدراكنا الواعي بأن المجتمع في حال تحولات إيجابية وتغيرات متسارعة على كافة الأطر وفي شتى المجالات، فسندرك حينا بواعث توجه العديد من المثقفين ورموز المجتمع نحو كتابة الذات، فهم في تقديري قد تولد لديهم شعور بأن تجاربهم الحياتية منها، والمهنية، وحتى الاجتماعية، تستحق أن تُوثّق كي لا تُنسى، وكي تكون مرجعية للأجيال في مستقبل الأيام.
كما أن قضية التعبير عن الذات وعكس الهوية باتجاه القارئ الافتراضي والبوح بالعديد من المفصليات الحياتية ومنها تجارب النجاح قبل الفشل، لم يعد يشكل – في تقديري - حرجًا للشخص، بل قد باتت مسألة الكتابة عن الذات جزءًا ومكونًا شعوريًا للفرد بذاته الفاعلة على الصعيد الاجتماعي وتعبيرًا صارخًا ووجوديًا عنه كينونته الفاعلة والمنجزة موجهًا بالمقام الأول «لأناه» الفاعلة قبل أن يكون تعبيرًا موجهًا صوب الآخر.
وقد يكون الباعث أيضًا كامنًا فيما يمكن أن يشكل مقاربة لمدرسة التحليل النفسي التي ترى في البوح -ومنه في رأيي الكتابة- تحررًا من الضغوط النفسية، وربما قد يشكل طريقًا للتعافي النفسي أو معبرًا آمنًا لتجاوز الانكسارات النفسية ومحطات الفشل التي يُمنّى بها الشخص خلال سنوات عمره المعيش.
وختامًا، فلابد أن لحالة الفضول الشخصي والرغبة المتزايدة لدى البعض في معرفة الجوانب الخفية والغامضة خاصة لدى الرموز والأيقونات المجتمعية من مثقفين وفنانين قد شجعت القارئ على اقتناء كتب السيرة والاقبال على قراءتها، وانعكس ذلك بالتالي في زيادة مبيعاتها، وهو ما دعا دور النشر لتشجيع تلك الأيقونات المجتمعية على كتابة سيرهم، وحفز هذه الأيقونات بالتالي على التوجه نحو هذا الضرب من الكتابة، خاصة في ظل مشاهدتهم لباقي من يشاركهم في ذات المجال المهني وقد نشروا سيرهم الذاتية.
وهنا تطل أسئلة تناول درجة صدقية ما يكتب، وسقف البوح فيما يدون، إذ من الاستحالة بمكان أن تكون مجمل السير بذات المعيار من المصداقية في التعبير والمكاشفة في التدوين، وبنفس الشفافية في العرض خاصة وإنها تمثل نوعًا من البوح الشخصي إلى قد يلامس إلى حد ما خطوط الاعترافات، وإن لم يتحل في الواقع بالجرأة ليصل إلى حدود ذلك.
إن الإجابة على هذه الأسئلة لن تكون من السهولة بمكان حتى وإن حاول الناقد أو الباحث الجريء والمتعمق أن يصل إلى ذلك للعديد من الأسباب، أبسطها إن كاتب السيرة هو المصدر الرئيس لها، وهو المشكّل الأول لمجمل تكوينها.
ومن هنا، فأرى بأن مطلب الصدق البوحي، والشفافية السيرية من كاتب السيرة قد بات يشكل في تقديري التزاما أخلاقيا نحو جمهوره من القراء وحتمية تعبيرية لا خيار.