فائز بن سلمان الحمدي
في زمنٍ يختلطُ فيه الصخبُ بالضجيج، وتُختبرُ فيه الموازينُ بين من يملكُ القولَ ومن يملكُ الحقَّ، يبعثُ اللهُ في أمةِ الإسلامِ رجالًا إذا حضروا سكتَ الجدل، وإذا تكلّموا أنصتت القلوب. رجالًا يُذكّرونك بأنّ العلمَ ليس حرفةً ولا مهنةً، بل عبوديةٌ وشهودٌ وتوريثٌ عن الأنبياء، يرفعُ اللهُ بهم رايةَ الدين، ويُبقي بهم صراطَهُ مستقيمًا بين أممٍ تتقاذفها الأهواءُ وتتنازعها الأصواتُ المتكاثرة.
ومن بين أنوارِ هذا الجيلِ المبارك، يسطعُ اليومَ نجمٌ طال إشراقُه، وزادَ ثباتُه على مرّ العقود، الإمامُ العلّامةُ الزاهدُ السلفيُّ المهيب، صالح بن فوزان الفوزان، وقد أكرمهُ اللهُ بأنِ اختارتهُ القيادةُ الرشيدةُ مفتيًا عامًا للمملكة العربيّة السعوديّة، ورئيسًا لهيئة كبار العلماء، ورئيسًا عامًا للرئاسة العامة للبحوث العلميّة والإفتاء، بمرتبة وزير.
إنهُ تكريمٌ للعِلمِ في شخصِ عالِم، وتشريفٌ للدعوةِ في رمزٍ من رموزِها، ورسالةٌ بليغةٌ تُؤكّدُ أنّ المملكةَ ما زالت تُعلي من شأنِ العلماء وتُبجّلُ حَمَلَةَ الشريعة. لم يكن هذا القرارُ إلا امتدادًا لِما رسخَ في وجدانِ الأمةِ من تقديرٍ لشيخٍ عُرفَ بثباتِ قدمهِ، ونقاءِ منهجهِ، وعلوِّ همّتهِ، وسموِّ خُلقهِ. رجلٌ عاشَ عمرَهُ في محرابِ العلمِ، صابرًا على طلبهِ، مخلصًا في بثّه، صادقًا في قوله، لا تستهويهِ أضواءُ المناصبِ ولا تغريهِ زخارفُ الظهور. من عرفَهُ علمَ أنّ الوقارَ في سكونِه، والعلمَ في منطقه، والهيبةَ في سَمتِه، وأنّ السكينةَ التي تفيضُ من وجهِه ليست مظهرًا من مظاهرِ المهابة، بل أثرُ إخلاصٍ وصدقٍ وقيامٍ بحقّ العلمِ والبيان.
لقد أحسنَ خادمُ الحرمينِ الشريفين الملكُ سلمان بن عبد العزيز -أيّدهُ الله-، وأجادَ سموُّ وليِّ العهدِ الأمينُ الأميرُ محمد بن سلمان -حفِظهُ الله-، حين أسندا زمامَ الفتوى إلى من طهّرَ اللهُ قلبَهُ من شوائبِ الهوى، وملأَ عقلَهُ من نورِ الوحي. قرارٌ ينطقُ بالحكمةِ، ويشهدُ على أنَّ القيادةَ الرشيدةَ لا ترى في المناصبِ زينةً دنيويّةً، بل مسؤوليةً تُناطُ بأهلِ الأمانةِ والدرايةِ والبصيرة. فكمْ أصابَ مولاي الملكُ في نظرتهِ الثاقبة، إذ جعلَ الكلمةَ في يدِ من يُحسنُ وزنَها بميزانِ الشرعِ، وكمْ صدقَ وليُّ العهدِ الأمينُ في اختيارهِ إذ أيقنَ أنَّ منارَ الإصلاحِ لا يكتملُ إلا إذا استضاءَ بنورِ العلماءِ الصادقين.
إنَّ القيادةَ حين تُكرمُ عالِمًا، فإنّها تُكرمُ ذاتَها، وتُعلنُ أنَّ البناءَ لا يقومُ إلا على أساسٍ من العلمِ والهدى، وأنَّ النهضةَ الحقّةَ لا تُبنى على الحماسِ العابرِ، بل على فهمٍ راسخٍ يُنيرُ العقولَ ويهدي البصائر. فخادمُ الحرمينِ الشريفين، رجلٌ أكرمهُ اللهُ بحكمةٍ بالغةٍ، ونظرٍ عميقٍ في سننِ القيادةِ، لا يقدّمُ في الدينِ إلا من صفا قلبُه، ولا يُنيطُ الفتوى إلا بمن رسخت قدمُهُ في العلمِ رسوخَ الجبال.
وأمّا وليُّ العهدِ الأمين، فقد صنعَ بيدهِ جيلًا وطنيًّا متوثّبًا ينهلُ من معينِ الأصالةِ ويصعدُ بسلالمِ التجديدِ، فكانَ بحقٍّ نِعْمَ الشريكُ في الرؤيةِ، ونِعْمَ الساعدُ في الإصلاحِ، ونِعْمَ القائدُ في زمنٍ تُختبرُ فيهِ العزائمُ وتُمحّصُ فيهِ المقاصد.
إنَّ الشيخَ الفوزان ليس مجرّدَ عالمٍ من العلماء، بل مدرسةٌ كاملةٌ في الفقهِ والفكرِ والسلوك، صاغتْها عقودٌ من البذلِ والتعليمِ والإخلاص. من استمعَ إليهِ شعرَ أنَّ الكلامَ يخرجُ من قلبٍ مطمئنٍّ باللهِ، ومن نظرَ إليهِ أبصرَ في سكونِه أثرَ السنينِ التي قضاها بين كتبِ السلفِ ومجالسِ الذكرِ ومحرابِ الفقه.
هو رجلٌ يُذكّرُك بهيبةِ العلمِ الأولى، حين كانت الكلمةُ تُقالُ للهِ لا للدنيا، ويُعيدُ إلى الأذهانِ معنى الوقارِ الذي لا يُشترى، والزهدِ الذي لا يُتكلّف. وما هذا التعيينُ إلّا شاهدٌ جديدٌ على وفاءِ هذه الدولةِ الراسخةِ لمنهجِها الأصيل، الذي قامت عليه منذُ نشأتِها على يدِ الإمامِ المؤسِّسِ عبد العزيز بن عبد الرحمن -طيّبَ اللهُ ثراهُ-، حين جعلَ العلمَ والتوحيدَ جناحَي قيامِها، فحفظَ اللهُ بها الدينَ، وأقامَ بها الحُكمَ على شريعةِ ربِّ العالمين.
وهكذا تمضي المملكةُ اليومَ على ذاتِ النهجِ المبارك، تُعلي منارَ العلمِ، وتكرّمُ العلماءَ، وتُبقي رايةَ السنّةِ خفّاقةً في سمائِها، ليبقى هذا الوطنُ منارةً للحقِّ والاعتدالِ والعزِّ والثبات. إنّنا إذ نُباركُ لشيخِنا الجليلِ هذا التشريفَ الكبيرَ، نرفعُ أكفَّ الدعاءِ لقيادتِنا الرشيدةِ أن يُديمَ اللهُ عزَّها وتمكينَها، وأن يُسدّدَ خُطاها لما فيهِ صلاحُ الدينِ والدنيا، وأن يُباركَ في عُمرِ الشيخِ صالح الفوزان، فيبقى منارًا للهدى، وميزانًا للفتوى، ولسانًا ناطقًا بالحقِّ والبيان. اللهمَّ احفظْ بلادَنا، وباركْ في علمائِها، وأدمْ على ولاةِ أمرِنا رشدَهم وبصيرتَهم، واجعلْ هذا القرارَ المباركَ فاتحةَ خيرٍ جديدٍ تُزهِرُ بهِ العقولُ علمًا، وتزكو بهِ النفوسُ إيمانًا، وتبقى بهِ رايةُ الإسلامِ خفّاقةً ما دامتِ السمواتُ والأرض. فهنيئًا للعلمِ وأهلِه، وهنيئًا للوطنِ بقيادتِه، وهنيئًا للأمةِ بهذا اليومِ الذي أكرمَ اللهُ فيهِ عِلمًا يُتلى واسمًا يُخلّد.