د.صالح بن عبدالله بن حميد
الحمد لله أنفذ في خلقه أمره، وقدر لكل حي أجله، ورزقه، وعُمُره، سبحانه قدر الأمور وقضاها، وعلى سابق علمه أجراها، وأمضاها، وقدر مبدأها، وقدر منتهاها، أحمده سبحانه وأشكره واُثني عليه، جرت مشيئته في خلقه بتصريف الأمور، جعل لكل شيء أجلاً، وخلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، حكم على الأحياء بالفناء، والبعثِ إلى دار الجزاء، والفصلِ بينهم في دار القضاء، لتجزى كل نفس بما تسعى، له العزة والجبروت، وبيده الملك والملكوت، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله خاطبه ربه بقوله: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ) (34) سورة الأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، أقاموا أعلام الملة، وجاهدوا في الله حق جهاده، إلى أن قضوا نحبهم، ولاقوا ربهم، وما بدلوا تبديلاً، وعلى من تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً مزيداً أبداً بكرة وأصيلاً.
وبعد: ( تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)، (1 - 2) سورة الملك.
الموت أكبر واعظ، قدره الله على خلقه، وكتبه على عباده، (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) (185) سورة آل عمران، وقال عز شأنه في صفوة أصفيائه، ومصطفاه من خلقه وأنبيائه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (30) سورة الزمر.
الموت لا محيص عنه، وقادم لا مفر منه، يصل إلى العبد في بطون الأودية، وعلى رؤوس الجبال، وفي الغابات والأدغال، وفي أجواء السماء، ومن تحت الماء، وفي القلاع الحصينة، والحصون المنيعة، (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (78) سورة النساء، ينتزع الطفل من حضن أمه، ويهجم على الشاب في عنفوان قوته، والفارس وهو في حلبة الصراع، كما يأخذ الشيخ الهرم، والمريض على سرير المرض، ما أقرب الموت، وما أسرع دنو الأجل، كل يوم يدنو منا ونحن ندنوا منه حتى يبلغ الكتاب أجله.
نسيان الموت بلاء عظيم، ما نسيه أحد إلا طغى، وما غفل عنه إنسان إلا غوى، فأكثروا - عفا الله عنا وعنكم - من ذكر هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وكونوا على أهبة الاستعداد في جميع الأوقات، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (5) سورة فاطر.
شتان بين من يموت وتنتهي حياته بانتهاء عمره، وآخر يرحل وتبدأ سيرته بعد رحيله، لأن آثاره باقية راسخة فيما خلفه من أعمال جليلة ومآثر كبيرة.
كمْ في أقدار الناس مِن لَحظات تختصر أعمارًا، وأسطرٍ تختزل أسفارًا!، كم في عِبَر الأيَّام من مواعظَ!، وكم في تقلُّبات الدّهر من بصائر!، أفراح وأتراح، انتصارات وهزائم، حياة وموت، فقر وغِنًى، حرْب وسِلم، والله فوق عبادِه يُدبِّر الأمور، يعلم ما تسرون وما تعلنون وهو عليم بذات الصدور.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه- : «الشقيُّ مَن شقي في بطن أمِّه، والسعيدُ مَن وُعِظ بغيره»؛ (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ ) (137) سورة آل عمران، (أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ) (109) سورة يوسف.
الناس في دارٍ ليستْ للبقاء، أيَّامُها مراحل، وساعاتُها قلائل، وماهي إلا كظل زائل، والمرءُ عنها راحِل، والموت قد يَسبقه إلى العبد نُذُرٌ وعلامات من مرض مهلِك، أو حَرْب مبيدة، وقد ينزل الموتُ به بغتةً وهو على أتمِّ حالٍ وأهنا بال، وإنَّ من موت البغتة والفُجأة ما يقع لفرْد أو أسرة على إِثْر هدم، أو غرق، أو حريق أو غيرها، وحوادث مراكب النقل في هذا العصر مِن أوسعِ صُور موت الفجأة.
وإنَّ مما يسلي النفوس، ويحيي القلوب ترابُط أفراد المجتمع، فتلكم علامةُ خير ورشْد، فالمسلم يَفْرح لفَرَح أخيه، ويَسْعد لسُروره، ويتمنَّى الخير له، كما يُشاركه في حُزنه إنْ ألَمَّت به مصيبة، أو حلَّت به نازلة، فالمسلمون كالجسد الواحد، والجسدُ يتألَّم كلُّه لألَمِ عضو من أعضائه، فضلاً عن فقدانه؛ (المؤمنون كرجلٍ واحد؛ إن اشتكى رأسُه تَداعَى له سائرُ الجسد بالحُمَّى والسَّهر)؛ رواه مسلم.
كما أنَّ ممَّا يُحمد للمجتمع حُبَّه للعلماء والدعاة، وذوي الفضل والصلاح، والوجهاء الذين لهم أثرهم وتأثيرهم في المجتمع، والأخْذ بأقوالهم والاستنارة برأيهم، وإذا حلَّ بأحد الأعيان الموفقين أجلُه المقدَّر، وانطوت صحيفتُه، وانتقل عن هذه الدنيا، فإنَّ الجموع تحزن، والعيون تَدمع، وكأنَّها فَقدت أبًا أو أمًّا، أو قريبًا عزيزاً، وقد قال أيُّوب -رحمه الله- : «إنِّي أُخبر بموت الرَّجل من أهل السُّنة، فكأنِّي أفقد بعضَ أعضائي»، فإذا كان هذا شعورَهم عند موت الرجل غير البارز من أهل السُّنة، فكيف تكون حالُهم عند موت أحد علماء السُّنة أو ذوي الأثر والتأثير؟!
لَعَمْرُكَ مَا الرَّزِيَّةُ فَقْدُ مَالٍ
وَلاَ شَاةٌ تَمُوتُ وَلاَ بَعِيرُ
وَلَكِنَّ الرَّزِيَّةَ فَقْدُ فَذٍّ
يَمُوتُ لِمَوْتِهِ خَلْقٌ كَثِيرُ
إنَّ رحيل العلماء والدُّعاة والمصلحين، وذوي التأثير مصيبةٌ شديدةُ الوقْع على الأمَّة؛ لأنَّ في ذَهاب هؤلاء ذَهابًا للعِلم الذي يحملونه، وتوقُّفًا للدعوة التي ينشرونها، وانحسارًا لعمل الخير الذي يقومون به، ولَمَّا كان لمثل هذه النوازل المؤلمة آثارٌ بليغة في النُّفوس، كان لا بدَّ من وقفات وتأمُّلات، تخفِّف من الحَدَث، وتنشر البُشرى، وتحثُّ النفس أولاً، ثم الناس جميعًا إلى حسن الاستفادة من حياة أولئك العُظماء، والاقتداء بهم.
إذَا أَعْجَبَتْكَ خِصَالُ امْرِئٍ
فَكُنْهُ تَكُنْ مِثْلَ مَا يُعْجِبُكْ
فَلَيْسَ عَلَى الْجُودِ وَالْمَكْرُمَاتِ
إِذَا جِئْتَهَا حَاجِبٌ يَحْجُبُكْ
يقال هذا ويُذَكر به يوم نزلت المنية في صباح يوم الأحد 20 ربيع الآخر 1447هـ، الموافق 12 أكتوبر 2025م، في رجل من رجال الدولة، ورمز من رموز العلم، وعميد من أعمدة العمل الخيري إرادة وإدارة، إنه معالي الدكتور عبدالله بن عمر نصيف -رحمه الله وأسكنه في جنات النعيم-. رحل وقد ترك خلفه إرثا عريضاً. فُجِع به الوطن والأمة الإسلامية، وعالَمُ البر والخير والإحسان. وقد صُلِّي على الفقيد -رحمه الله- بعد صلاة العصر يوم الأحد نفسه في مسجد الجفالي في جدة، ودفن في مقبرة الأسد.
اليوم قد عظم المصاب بفقدكم
نرجو النجاة لكم وحسن جوار
بشرى أبا عمر شرفت بسيرة
ورويت فيها أحسن الآثار
ولد معالي الدكتور عبدالله بن عمر بن محمد بن نصيف في مدينة جدة، يوم الخميس (17 صفر 1358 هـ)، في عائلة كريمة درجت في مدارج العلماء والأعيان والوجهاء.
نشأ في بيت عامر بالكتب والعلماء، فقد كان جده الشيخ العالم السلفي الكتبي المضياف الوجيه الكبير محمد بن حسين نصيف -رحمه الله- من أعلام جدة، وعلمائها، ورجالات البلاد، وكبرائها، الذين يحظون بالثقة من ملوكها، مقرباً من الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله-، عرف بتحصيله للعلم، وبذله فيه، والدعوة إلى الله، وطباعة الكتب ونشرها، وكان يملك مكتبة عظيمة، زاخرة بالكتب والنوادر من المخطوطات والمطبوعات، وقد كان فيها ما يقارب ستة عشر ألف مجلد، منها ثلاثمائة من المخطوطات النادرة، وقد كونها بالشراء والنسخ، فقد اشترى جملة من المكتبات الشخصية للعلماء في العالم الإسلامي، وكان يرحل لذلك -رحمه الله- ومما يذكر عنه أنه يوكل من يجلب له الكتب وشرائها من أصحابها أو ملاكها، فإذا لم يستطع فإنه يكلف من ينسخها ويأتي بها، وهذه المكتبة العامرة محفوظة في جامعة الملك عبدالعزيز من جملة المكتبات الخاصة المهداة والموقوفة في الجامعة.
وكان ذا صلة واتصال بالمسلمين ووفود الحجيج، وكان منزله مضافة للحجاج والمعتمرين، وقد عرف بفضله، فقلما يخلو هذا البيت الكبير في جدة من وفود، وأضياف، وحجاج، وزوار من العلماء، والأعلام، ومن دونهم يدخلون هذا البيت المنيف ما بين قارئ، ومستفيد، ومفيد، وطاعم، ومستريح. فكان الجد له بالغ الأثر في بناء شخصية الحفيد رحمهما الله تعالى.
وقد كتب الشيخ زهير الشاويش كتاباً عنوانه: «محمد نصيف ذكريات لا تنسى»، وهو ماتع في بابه. كما كتب معالي الشيخ محمد العبودي كتابه» الشيخ محمد نصيف كما عرفته».
إن آل النصيف في هذا البيت العامر المحاط بجلال العلم، وهيبة المكان، ورمز الكرم، يفوح بعبق المجالس المفتوحة العامرة بالأكابر، والوجهاء، مما يبني العقول، ويثرى التجارب، ويصنع الرجال.
كما كان والد الدكتور عبدالله الوجيه عمر بن محمد نصيف -رحمه الله- رجلاً من أهل الفضل والمال والأعمال، والخير، وقد كان مديراً لأوقاف جدة، ورئيساً لبلديتها.
وأمه السيدة صديقة شرف الدين، والتي كانت له مدرسة أولى في الدين والأخلاق، وقد كانت من النساء الصالحات الداعيات، فتحت مدرسة لتعليم النساء في عهد الملك سعود -رحمه الله- (المدرسة النصيفية)، وهي باقية حتى اليوم، وكان لهذه المدرسة الأثر الكبير في إخراج جيل من النساء من الداعيات إلى الله، ويأتي في مقدمتهن ابنتها وشقيقة الدكتور عبد الله الدكتورة فاطمة نصيف -رحمهما الله-، والحديث عن الدكتورة فاطمة ذو شجون، فهي من أشهر النساء القائمات على العمل الخيري والدعوي في جدة وخارجها، جمعت بين العلم والغيرة، وحب الدعوة، والإخلاص، والإحسان إلى الناس، وهي تحمل الشهادة العليا، وقامت بالتدريس في جامعة الملك عبد العزيز مدة طويلة، كما أنها من رواد القسم النسائي في جمعية تحفيظ القرآن الكريم، وشاركت في كثير من الجمعيات الخيرية، وألقت محاضرات وتوجيهات كثيرة، وألفت عدداً من الكتب تُرجم بعضها إلى لغات مختلفة، توفيت -رحمها الله- عام 1424هـ.
ومن هذا البيت المبارك الشيخ عبد الرحمن بن عمر شقيق الدكتور عبد الله، وهو معني بالكتب واقتنائها، ويملك كتباً نادرة، وحصل حادث حريق مأساوي أتى على كثير من هذه الكتب النفيسة لكنه بهمته -بعد توفيق الله- أعاد بناء مكتبة جديدة لا تقل في قيمتها عن الأولى، وحيث إن عبدالرحمن سليل هذه الأسرة الكريمة فإنه في مكتبته وفي مسجده، وفي بيته يعيش بابتسامته مع ضيوفه، ومع الفقراء، والمحتاجين يتناول الطعام معهم، ويوزع ما يوزعه مما يحتاجه الفقير والمحتاج، وإذا تحدث عن التاريخ، والعلم، والثقافة فهو متحدث جيد يتحدث عن المجالس العلمية، والأدبية، والرحلات وهو قارئ واسع الاطلاع.
وكما كان الدكتور عبد الله متعلقاً بجده الوجيه محمد نصيف كذلك كان عبد الرحمن يعرف حياة جَدِّهِ، ويحفظ مراسلاته، ويستمتع بالحديث عن الأسرة الكريمة، وتاريخها وذكرياتها، والشيخ عبد الرحمن امتهن المحاماة، وله سمعته الواسعة في ذلك.
هذا ما يتعلق بهذا البيت المنيف المبارك الذي نشأ فيه الدكتور عبد الله، من هنا فلا غرابة أن يكون الدكتور عبدالله ملازماً لجده في الحل والترحال، وقد تأثر به كثيراً؛ حيث كان يرافقه في زيارة الملوك والوجهاء والعلماء، وقد أثر ذلك في شخصيته.
تلقى المترجم له تعليمه الأول في مدرسة الفتى الوطنية بجدة، ثم المرحلة المتوسطة والثانوية، فكان طالباً مجتهداً يسعى إلى المعالي بجد لا يعرف الملل. ثم انتقل إلى العاصمة الرياض ليدرس في جامعة الملك سعود، فحصل على بكالوريوس العلوم في الكيمياء والجيولوجيا بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف الأولى عام 1384هـ (1964م). ولم يكتف بذلك، فسافر إلى بريطانيا ليكمل دراساته العليا، وحصل على دكتوراه في الجيولوجيا من جامعة ليدز عام 1391هـ (1971م)، وكانت رسالته بحثاً رائداً في صخور الجيولوجيا العربية، يشهد لها العلماء بالإبداع والدقة.
كان الدكتور عبدالله نصيف عالماً جيولوجياً، لم يكتفِ بالحصول على الدرجات العليا، بل أعطى من علمه للوطن والأمة.
عمل أستاذاً في جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبد العزيز، وكان رئيساً لقسم الجيولوجيا ثم عميداً لكلية العلوم، ثم أميناً للجامعة لمدة ثلاث سنوات، ثم مديراً لجامعة الملك عبد العزيز من 1400هـ إلى 1403هـ (1980 - 1983م)، حيث شيد مبانيها، وأضاف إليها مكتبات، ومعامل تشهد له بالإبداع. وفي مجال البحث أنشاء معاهد للبحث العلمي، ونشر أبحاثاً رائدة في الصخور في منطقة الطائف، والدرع الجرانيتي العربي، ودراسات بترولية.
والدكتور عبد الله -رحمه الله- في تعليمه لطلابه في الجامعة في تخصصه (علوم الأرض: «الجيولوجيا») يصطحب طلابه في هذا التخصص إلى الجبال والوديان ليعرفهم على أنواع الصخور، والتربة، والمعادن ذلك أنه جاد، مخلص، محب لتخصصه ولطلابه، وهو متابع للجديد في هذا التخصص وأبحاثه ومستجداته، وحسبك به من رجل صالح، وهو في هذه الجولات العلمية مع هؤلاء الشباب ليقتبسوا من سيرته، وأدبه، وصلاحه، وجده، وحزمه، ونصحه.
وفي أثناء تعليمه في الجامعة وإدارته لها اجتمع عليه الطلاب، وأعضاء هيئة التدريس، والإداريون، وأولياء الأمور اجتمعوا على حبه، وتقدير، واحترامه؛ لعلمه، ودينه، وخلقه، وتواضعه.
لم يقتصر على العلوم الطبيعية، بل امتد إلى العلوم الإنسانية، فكتب كتباً تجمع بين العلم والشرع، مثل «العلوم والشريعة والتعليم» (بالإنجليزية)، وميثاق التضامن الإسلامي»، و»الإسلام والشيوعية»، و»العلوم الاجتماعية والطبيعية». كان زميلاً للجمعية الجيولوجية في لندن وأمريكا، وعضواً في أكاديمية المملكة المغربية بالرباط، وحصل على جائزة الملك فيصل العالمية في خدمة الإسلام عام 1991م.
لم يكن الدكتور نصيف عالماً فقط، بل قائداً إدارياً، وسفيراً للإسلام في العالم. تولى مسؤولية الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي من 1403هـ إلى 1413هـ (1983 - 1993م)، وقد بذل جهداً كبيراً لجمع شمل المسلمين، ودعوة الناس إلى الإسلام بحكمة ولطف. أسس مؤتمرات دولية، وأرسل دعاة إلى كل أنحاء الأرض، فكان صوت الإسلام في محفل الأمم. وكان - رحمه الله - يرى أن هذا النوع من الأعمال يجتمع عليه أهل الإسلام؛ ليحقق من خلالها رفع واقع المسلمين في دولهم عن طريق التعليم، والإعلام، والاقتصاد، لتصبح تلك الدول رائدة في كل المجالات؛ ولتبني أوطانها، بالتعاون مع القيادات والحكومات فيها، وتنهض بهمة نحو المعالي في أمر الدين والدنيا.
لقد كان حضوره وإسهامه ليس ليلقي خطاباً، ويقابل مسؤولاً، ولكن ليلتقي بالناس ويستمع إليهم، ويزور مساجدهم ويتفقد مراكزهم.
لقد كان خطابه مع الأقليات المسلمة خطاباً تواصلياً راشداً يجمع بين الثبات على الدين والاستمساك به، واحترام الخصوصية، يجمع بين المحافظة على الدين والشعائر وبين مد الجسور للخير والسلام مع الجميع.
لا يطلب لنفسه شهرةً ولا ظهوراً إعلامياً قاعدته: المطلوب أعمال يبقى أثرها وليس أشخاصاً تعلن أسماؤهم، يبني دون ضجيج، ويقرب بين القلوب من غير إثارة خلاف.
كم خدمةٍ قَدَّمْتَها في همة
تسعى لخدمة سائر للأمصار
كم قد سمعنا منك أخباراً بها
يا حسنها من أجمل الأخبار
يسعى لخدمة عاجز أو طالب
يرجو رضا مولاه في الأسحار
بعد هذه الرحلة العلمية الدعوية في رابطة العالم الإسلامي، أصبح نائب رئيس مجلس الشورى السعودي من 1413هـ إلى 1422هـ (1993 - 2001م)، فكان مستشاراً حكيماً للقادة، وهو ذو منزلة وتقدير لدى ولاة الأمور - رحم الله من مات منهم وحفظ الأحياء وأدام عزهم -، يبدي رأياً يجمع بين الشرع والعصر.
ومن اللطائف أن جده الشيخ محمد نصيف تولى منصب الشورى في الحجاز، وكان ابنه عمر عضواً فيه كذلك.
وهي مناسبة لأذكر صلتي بهذا الرمز الكبير، ورجل الدولة المحترم، فقد كانت علاقتي بمعاليه من جانبين: - الجانب الأول: حينما كان أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي، وكنت عضواً في المجلس الأعلى للمساجد، تواصلت معه عن قرب، فإضافة إلى كل ما ورد في هذه الكلمة من شخصيته الودودة، وعمله الدؤوب، وحرصه على الدعوة، وعلى عمل الخير، فإن تقديره للرجال، وحسن الاستفادة منهم، وبخاصة رجال الأعمال فيما يحتاج فيه إلى الدعم، وإلى المال، فإن له في ذلك اليد الطولى؛ لأنه محل ثقة كبيرة لدى كل من عرفه، وتعامل معه في ديانته، ونصحه، وإخلاصه، ونزاهته، وجديته، ومتابعته - رحمه الله.
ومن أبرز الأعمال والإنجازات في مسيرته مشروع الإغاثة المعروف بـ(سنابل الخير) مشروع تخفيف وطأة الفقر، والجهل، والمرض على فقراء المسلمين في العالم.
- الجانب الثاني: حينما كان نائباً لرئيس مجلس الشورى، وكنت عضواً فيه، فكان التواصل كذلك عن قرب، وبخاصة في أدبه في التعامل مع الزملاء أعضاء المجلس، والإداريين، وكل منسوبي المجلس، فضلاً عن نضج آرائه، وأخذه الأمور بروية وأناة مع العلاقة المتميزة بينه وبين معالي رئيس المجلس معالي الشيخ محمد بن جبير - رحمهما الله جميعاً، وأحسن إليهما، وجزاهما الله أحسن الجزاء - عما قدمها لدينهما، ووطنهما، وولاة الأمور.
مناصبه وجوائزه:
- نائب رئيس مجلس الشورى برتبة وزير.
- الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي.
- نائب الرئيس الأعلى للجامعة الإسلامية العالمية في إسلام آباد.
- مدير جامعة الملك عبد العزيز في جدة.
- رئيس مجلس هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية.
- رئيس مؤتمر العالم الإسلامي.
- رئيس الاتحاد العالمي للكشاف المسلم.
- رئيس مجلس أمناء كلٍّ من: معهد تاريخ العلوم العربية الإسلامية في جامعة فرانكفورت في ألمانيا، المركز الثقافي الإسلامي في جنيف بسويسرا، المركز الإسلامي الثقافي في سيدني أستراليا، الجامعة الإسلامية في النيجر، الجامعة الإسلامية في شيتاجونج في بنجلادش، وجامعة دار الإحسان في بنجلاديش.
- عضو مجلس أمناء جامعة دار السلام في نيو مكسيكو. والكلية الإسلامية الأمريكية في شيكاغوا في أمريكا. والأكاديمية الإسلامية في كمبرج في بريطانيا.
والأكاديمية الملكية المغربية.
- عضو في مجلس المديرين للهيئة الدولية لمحاربة الإدمان على المخدرات في واشنطن.
- نائب رئيس الندوة العالمية للشباب الإسلامي.
- رئيس الجمعية الجغرافية السعودية.
- منح جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام.
- منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الأولى.
- منح وسام الهلال من حكومة باكستان.
- منح جائزة الأمير محمد بن فهد للأعمال الخيرية.
إنه كان يداً بيضاء تمتد إلى البشرية كلها، مسلمين وغير مسلمين، فرحمك الله يا بحر الخير، وأسكنك في عليين.
وأمضى عقوداً عاقداً عزمه على
نجاة الورى من حالي الجهل والفقر
وانجز ما أعيا الجموع وإنها
مباركة المولى لُمطَّلِبِ البر
وكان الخير ديدنه وسبيله، فأسس مؤسسة عبدالله بن عمر نصيف الخيرية ليمد يد العون إلى الفقراء والمحتاجين.
وفي مجلسه الأسبوعي «أحدية الدكتور عبدالله»، التي أسسها عام 1422هـ في منزله بحي الأندلس بجدة، كان يجمع العلماء والمفكرين كل يوم أحد بين المغرب والعشاء، لينشروا الثقافة ويوثقوها بالتصوير التلفزيوني. من ضيوفه الكبار، فكان مدرسة عامرة في الدعوة والتوعية والاعتدال.
أما سيرته الشخصية فقد تزوج الدكتور نصيف عام 1387هـ (1967م)، وأنجب ثلاثة أبناء: عمر، ومحمداً، ومحموداً؛ وابنتين: عائشة وخديجة. كان أباً رحيما، يربي أولاده على القرآن والعلم، وزوجاً مخلصاً، وأخاً لأخيه الشيخ عبد الرحمن وأخته الداعية الدكتورة فاطمة - رحمها الله - التي رحلت قبله بسنوات. كان رجلاً حليماً، ودوداً، يجمع بين الحكمة واللطف، ويقول: «العلم بلا خلق كالجسد بلا روح». فكان قدوة، يعيش بالقيم الإسلامية، ويدعو إليها بالعمل، كما يدعو لها بالقبول.
سيرته ليست في المناصب التي تبوأها وهي عالية، ولا بالألقاب التي حملها وهي كبيرة، ولكنه بالعمل الإنساني الرفيع الذي تركه في وطنه، وفي المجتمعات الإسلامية بعالمه وأقلياته.
تباهت بها كل المناصب عندما
تبوأها مستجمع الدين والفكر
ومن كان ذا جاه رفيع ومنصب
ولم يخدم الإسلام ليس بذي قدر
سار عبد الله بن عمر بن محمد نصيف في درب منير ملأه بالوطنية، وطريق مضيء بالصلاح، ومسار استقامة سطره بالوفاء، فكان شاهداً على العلم، شهيداً على الفكر، نحسبه كذلك والله حسيبه.
رحل وقد جمع بين قوة العلم، وسعة الأفق، وحسن القيادة، والخدمة الصادقة للإسلام والمسلمين.
سيروا على مناهجه في حبه
واستمسكوا بمآثر الأنصار
على مثله يُبْكى على مثله يُجرْى
وما لجمود العين يا صاح من عذر
أثرى الساحات العلمية بعدد من المؤلفات منها: الإسلام والشيوعية، العلوم الشرعية والتعليم، انبثاق التضامن الإسلامي.
الوجه السمح الذي لم تغلق بابه حاجة، ولم يخب من طرق عتبته فقير. كان يعمل في صمت، ويمنح في خفاء. كريم السيرة عفيف اللسان، محباً لوطنه، صادقاً في ولائه، باراً بأهله، قريباً من إخوانه، محسناً لمجتمعه.
يجمع القلوب بكلمة طيبة، ويزرع فيهم الألفة، والمحبة، والرحمة، بيته ملتقى الأحبة، وحديثه نداء الأخوة.
عرفه المجتمع بأمانته، وإخلاصه، وعدله، احتكم إليه المتخاصمون، ووكله ورثة الأثرياء ليفصل بينهم، وقبلوا رأيه وحكمه.
خلف إرثاً من الخير، وسيرة تفوح بالعطاء، وأجيالاً تدعو له بظهر الغيب. فعله يسبق قوله، وهمته تسبق آماله.
فلله ما أحلى الحياة التي انقضت
موزعة بين المحامد والفخر
وأختم هذه الكلمة بما يدل على جديته وأخذه جميع أموره بقوة منذ أول حياته ومطلع شبابهن فحينما انتظم في صفوف الكشافة منذ دراسته في المرحلة الثانوية فباشرها بجد وصرامة، ومارس أنشطتها بشخصيته الجادة، الخلوقة الصالحة، المستقيمة فدعم مسيرة الأخلاق بين الشباب، ورسخ ثقافة السلام والحوار والوسطية، حتى صار قدوة بارزة يحتذى بها في هذا الميدان الواسع الذي ينتظم الشباب في جميع أعمارهم وديارهم. وترقى في مواقعها الإدارية حتى وصل إلى رئيس الاتحاد العالمي للكشاف المسلم.
ومما يذكر من مواقفه في هذا الميدان أنه كان ذات يوم جالساً في مطعم المركز الكشفي العربي الدولي في القاهرة، فجاءه أحد العمال من العاملين في المكتب طالباً منه مساعدته في أداء فريضة الحج، وكان - رحمه الله - في ذلك الوقت أميناً عاماً لرابطة العالم الإسلامي، وتحدث مع الأمين العام للمنظمة الكشفية في ذلك الوقت في طريقة تتيح الفرصة لغير القادرين على أداء فريضة الحج من موظفي وعمال المركز الكشفي العربي الدولي، فانتهوا على أن يتم اختيار مجموعة من العاملين في قسم التغذية، وبعض القيادات الكشفية للإشراف على تقديم وجبات الطعام للحجاج ضيوف الرابطة، ومن ثم تتاح لهم فرصة أداء فريضة الحج، واستمر ذلك طيلة توليه أمانة الرابطة.
ومن المواقف التي تسجل له - رحمه الله - من مواقف البذل والمساعدة وتفقد ذوي الاحتياجات، أنهم دخلوا ذات مرة وهم أكثر من عشرين فرداً مطعماً لتناول طعام العشاء في أحد الفنادق الفخمة في كوريا الجنوبية خلال المؤتمر الكشفي العالمي الثامن والثلاثين عام 2008م، وعندما قام كل واحد ليدفع قيمة الطعام الذي تناولوا فوجئوا أن المبلغ قد تم دفعه، ولم يعرفوا في حينه من الذي قام بذلك، ثم بعد مرور سنوات حصل الموقف نفسه فاكتشفوا أن الذي يقوم بذلك هو الدكتور عبدالله - رحمه الله.
فهنيئاً له المحبة والثناء والقبول العريض. ومثله - رحمه الله - حين يرثى رحيله، فإن إرثه لا يموت. جامعات بناها، أمة خدمها، أجيال رباها، وكتب تبقى تشهد له، وفي كل مسجد ومدرسة، يتردد اسمه بالدعاء والحمد.
اللهم اغفر له وارحمه، وأسكنه في أعلى الجنان، واجعل قبره روضة من رياض الجنة. وأصلح عقبه وذريته إنك سميع مجيب.
ثبته بالقول المثبت واسقه
من كف طه أعذب الأنهار
أسكنه جنات يحوز نعيمها
واخلفه بالخيرات في الأخيار