غالية بنت محمد عقاب المطيري
وقف بقامته الطويلة بعد أن رسم على شفتيه ابتسامة جميلة، زادها بهاءً ذلك الشارب الذي توّج بخصلات الشيب الذهبية.
تعلو قسمات وجهه الجاد، وأنفه العريض، تجاعيدُ خبرةٍ تُخبرك أن أمامك رجل الثقافة الأول. تجاعيدُه ليست سوى سطورٍ كتبتها التجارب، وكلُّ خطٍّ منها حكايةٌ من حكمة.
كان الحضور يملأ المكان حتى ضاق بهم، تهافتوا جميعاً شغفًا وإعجابًا لسماع ما سيقول.
وحين رأى تلك الحشود المتدفّقة لحضور ندوتِه، شعر بالزهو، فحيّاهم بابتسامةٍ واثقة، ثم صمت قليلًا صمتَ الرجلِ المحنّك، وبدأ حديثه قائلًا: أنتم هنا لمعرفة أهمية النقد، وهل هو ضروري؟ ومتى يكون النقد ممنوعًا، ومتى يكون واجبًا؟
وهل المؤسسات والإدارات الناجحة تعتبره ركنًا من أركان إدارتها؟
أظن أن هذه الأسئلة هي ما دفعتكم للحضور اليوم، وأعتقد أنكم بحاجة إلى إجاباتها كما يحتاج الظمآن إلى الماء.
لن أطيل عليكم انتظاركم وترقّبكم، ولذلك أطرح سؤالًا جوهريًا: هل النقد الحقيقي والإيجابي موجَّه إلى الفرد أم إلى العمل الذي ينتجه؟
لقد دخل النقد في كل علمٍ من العلوم، فلا تكاد تجد علمًا أو عملًا متميّزًا يسعى إلى النجاح والاستمرارية إلا وقد جعل النقد جزءًا من مراحله، وإن اختلفت مسمياته من علمٍ إلى آخر.
ففي العلوم الإنسانية والإدارية نجد «التقويم» و»التقييم» وفي المنظمات والهيئات الحوكمة، ويقابل ذلك في الأدب والشعر وفنونهما «النقد الأدبي». ولكي يكون النقد ناجحًا في أي علمٍ أو مجال، فلا بد أن يتصف بما يلي:
- الصدق بمعنى أن يكون الحكم صادقا والقصد منه وضوح الهدف من النقد فلا مجال فيه للمجاملة أو التجنِّي.
- الموضوعية وهي تلك الخصلة التي يتجرد فيها الناقد من كل آرائه ورغباته وميوله ومعتقداته ليعطي حكماً سليماً، وهي خصلةُ يتعب المرء للوصول إليها بعد التدريب والتأديب.
- الشفافية هنا تأتي كناية عن وضوح الناقد في إعطاء الأحكام دون غموض أو تلميح مبهم.
- الوعي هنا يشمل أبعاد موضوع النقد، بمعنى أنه إذا كان موضوع النقد علمياً فعلى الناقد أن يكون ملماً بأُسس البحث العلمي وهكذا..
ومع ذلك، قد يكون النقد على أهميته ممنوعًا، بل إن القيام به يُعد خطأً فادحًا.
فمتى يكون ذلك؟ يكون ذلك عند مرحلة التغيير؛ فعندما يريد قائدٌ ما إحداثَ تغييرٍ في كيانٍ أو منظمة، فعليه أو على من حوله أن يسعوا للعمل وإتقانه.
إذ إن الوقت حينها ليس للنقد، بل للالتزام والصبر حتى يتحقق التغيير وتترسخ أهدافه. أي إن النقد في بدايات العمل أو عند الانتقال من مرحلةٍ إلى أخرى، يُعدّ خطأً كبيرًا على الأفراد والمنظمات. فالإعراض عن النقد في هذه المرحلة من الأمور الصحيحة والحكيمة ومن الأدلة على ذلك قول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم عند بدء الدعوة: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}.
ونجد في علوم الإدارة أن من أنجح القيادات هي تلك التي تجمع بين مميزات القيادة الديمقراطية والأوتوقراطية. كذلك يُمنع النقد عندما يتعلّق الأمر بالشخصيات الاعتبارية أو من لهم قدسية خاصة، مثل الأنبياء والرسل والوالدين ومن في حكمهم؛ فالنقد هنا لا يحقق غايته، لأن غرضه التصحيح لا الجدل. فنقد الأشخاص محضُ جدلٍ لا يُثمر، كزبد البحر يعلو دون فائدة، فالنقد الجيد هو من يتجه للعمل وليس للأشخاص.
ومن هنا نقول: إن النقد ميزان دقيق بين الإصلاح والإفساد وهو كملح الطعام لا يُستساغ العمل بدونه، لكن الإفراط فيه يُفسد هنا يصدق في النقد ما يصدق في قول الشاعر عن الملح:
بالملح نصلح ما نخشى تغيّرهُ
فكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ؟