أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
تُعنَي «رقمنة الثقافة Cultural digitization» بتحويل الأشكال والعناصر المادية كالكتب والمخطوطات والصور والوثائق التاريخية واللغة والفنون والتراث والعادات ونظم المجتمع ونحو ذلك الى صيغ رقمية قابلة للحفظ والاسترجاع والعرض والتداول والنشر عبر الشبكة العنكبوتية بسرعة لحظية نسبياً غير مسبوقة زمكانياً. أما لفظة «المثاقفة Acculturation» مجردة من قرينتها «الحوسبة Computing» فَتَعنِيِ التفاعل بين ثقافتين او أكثر بحيث تؤثر كل واحدة منها في الأخرى وفقاً لطريقة التعامل مع ذلك التفاعل. ومن جهة أخرى تُعنَى «حوسبة المثاقفة Computerized Acculturation»، ككيان لفظي مركب، بتحليل الجوانب الثقافية وفهم أبعادها المختلفة وتطوير سبل التواصل الرقمي مع الغير سواءً أكان ذلك الغير قريباً أم بعيداً جغرافياً. كما تُعنى أيضاً، عبر تحليل ملايين النصوص، بإنشاء كيانات رقمية تُسَهِّل التواصل بين الثقافات وتتتبع تغيراتها وتوجهاتها المختلفة خلال الزمن. وتتم هذه الحوسبة بطبيعة الحال باستخدام أدوات الرقمنة الحاسوبية المتعددة المناهل والمقاصد والمنصات الرقمية لتجسيد التفاعل بين الثقافات وتحليل مداه وأبعاده وتأثيراته المتنوعة شكلا ومضمونا.
وتُكَمِّلُ «رقمنة الثقافة» و»حوسبة المثاقفة» بعضهما البعض، فتوفر الرقمنة المحتوى الثقافي الذي يمكن لحوسبة المثاقفة دراسته وتحليله والتفاعل معه وإبراز كيفية تأثيره في تشكيل الثقافات في عصر الرقمنة الفائقة الحوسبة وظهور المجتمعات الرقمية الافتراضية المثاقفة التي تتجاوز الحدود الجغرافية.
لقد كانت الثقافة قبل رقمنتها تنتقل بين أفراد المجتمع الواحد أو بين المجتمعات ذات الجوار الأقرب نسبياً عبر الكتب والمعلمين والأسرة والعادات الاجتماعية والتبادل التجاري والهجرة الراجعة التغذية المتعددة الأغراض وغيرها من سبل التواصل التقليدية العرفية الرتيبة. ولكن بعد رقمنة الثقافة وحوسبتها مثاقفياً لم تَعُد الثقافة كما كانت عليه في الماضي محصورة ضمن الزمكنة المحلية الضيقة لتلك المجالات الآنفة الذكر. بل أصبحت الثقافة اليوم نتيجة للتقدم المحوسب أنساقاً برامجية مؤلفة من منظومات مثاقفية مرقمنة مفتوحة الآفاق زمكانياً ومجالياً ومفاهيم طفروية مدهشة غير مألوفة منظورياً. ولعل من أهم الأمثلة العصرية لتلك الأنساق رقمنة المعلومات جمعا وأرشفة واسترجاعا، وصناعة الأفلام الترفيهية والوثائقية ذات العروض الضوئية السينمائية المرقمنة الجاذبة المستقطبة، والبث المرئي والمسموع المباشرين المحوسب، والحفظ المرقمن الثلاثي الأبعاد للإرث الثقافي والمعثورات الآثارية وتخليق منظوماتها الافتراضية التي تسمح بالتفاعل مع معارضها ومتاحفها من بعد. كما تشمل تلك الأنساق المرقمنة تقنيات النشر وما يناظرها من أنظمة التمثيل الهولوجرامي “holographic representation systems”، والوقائع المعززة “Augmented realities”، والافتراضية، “Virtual Realities”، وتقنيات الفبركة الخفية Hidden fabrication technology”، والذكاء الاصطناعي “AI”، ومختلف أنظمة المحاكاة “Simulative systems”، وتشكيلات الميمز المحوسبة Internet memes”» وغيرها من اشكال «رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة» المتعددة المشارب والغايات (صفاء زمان،2021 ، رقمنة الثقافة: مستقبل يلوح في الأفق، مجلة العربي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، دولة الكويت، العدد 789).
نتيجة للتقدم الرقمي المحوسب أضحى من الممكن وصول الفرد إلى ثقافات عديدة الأبعاد بضغطة زر مما يؤدى بطبيعة الحال الى توسيع آفاق التفاعل الثقافي والمثاقفي لذلك الفرد مع بني جنسه ومع الآخر قريبا كان أو بعيدا جغرافياً. ولذا لا غرابة أن تنتشر الثقافة الرقمية وحوسبتها مثاقفياً اليوم بشكل أسرع بكثير مقارنة بما كانت عليه سرعة انتشارها في الماضي القريب. وقد ترتب على هذا الأمر أيضا تقبل الأفراد والمجتمعات لأبعاد هذا النوع من الثقافة الرقمية بوتيرة أسرع بكثير مقارنة بما كانت عليه سرعة تقبل الوتائر المثاقفية المستجدة في غابر الأزمان. هذا من ناحية أما من ناحية أخرى، فقد ترتب على رقمنة الثقافة، إضافة لما سبق، تخليق بيئات مثاقفيه محوسبة جديدة بحيث لم يعد حال المثقف في زمن الرقمنه كما كان في سابق الأوان مجرد مستقبل فحسب. بل أصبح المثقف اليوم بكل تأكيد صانعا لمحتوى الثقافة المرقمنة الكترونياً ضمن مراحلها الإنفوجرافيكية المنظومية الدائرية التي تشمل الى جانب تخليق الثقافة مراحل مهمة أخرى كاستقبالها وفلترتها وانتقائها ودمجها مع غيرها من الثقافات.
كما تشمل تلك المراحل في نهاية المطاف مرحلة مشاركة الآخر مع الآخر في تخليق الثقافة وانتشارها عبر عالَمٍ مثاقفي محوسبٍ مفتوحٍ يتخطى بلا استئذان مقصات رقباء المطبوعات وسُلطَات العبور المثاقفي ومحصلي جمركة مواده المحوسبة وحرس حدود زمكنته الثقافية المحلية النطاق مجالياً.
بناء على ما سبق ذكره أضحى المثقف في عصر «رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة» عاملا مؤثرا من بعد في نسج أسس تركيباتهما البنيوية والديناميكية من ناحية ومتأثراً في الآن نفسه من ناحية أخرى بإيجابياتهما وسلبياتهما وتداعياتهما الخطيرة التي قد تتغلغل في وجدانه وتعشعش فيه سواءً أدرك المثقف ذلك أم لم يدركه. ونتيجة لهذه الأوضاع المثاقفية المحوسبة الغازِيِة للشعوب عولميا نهجاً وأسلوباً، أصبحت الثقافة المرقمنة التي تصلنا مثلا عبر اليوتيوب والتيك توك والإنستغرام والتويتر والواتساب والبودكاست وبعض القنوات الفضائية والمنصات وما شابه ذلك وانضاف إليه بنية محوسبة هجينة المضامين مثاقفيا. ولا شك أن لهذه المضامين أكبر الأثر في إذابة الحدود الوهمية بين مختلف الثقافات العالمية الأم غير المرقمنة. فتشكلت بطبيعة الحال نتيجة لهذه الأوضاع الرقمية المستجدة منظومات ثقافية عولمية محوسبة المثاقفة كَوَّنَت في هذا العصر مزيجاً رقمياً غير مستقل إلى حد كبير عن ثقافة الآخر القريب والبعيد على حد سواء.
من الضروري الإدراك في هذا الصدد أن المستَهدَفَ الرئيس لـ «رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة» هو الإنسان الذي يعد المُستَقبِل العضوي العاقل الوحيد لأطر المثاقفات المحوسبة، بل والقادر وحده على التفاعل مع مختلف مصادرها المثاقفية المرقمنة المتعددة الأطياف الكترونياً. وعلى الرغم من استقلالية الإنسان المثقف فكريا إلا أنه يعايش في أحايين كثيرة خارج نطاق تلك الاستقلالية صراعا مريرا يتراوح مجالياً بين سمو الهوية وشموخ الذات وخاصة عندما يصبح المثقف مجبرا أخاك لا بطل على اختيار ما لا يريده أو يناسبه من أنماط الثقافات المرقمنة ومساراتها المثاقفية المحوسبة المفروضة أحيانا عليه شكلا ومضمونا. ويعود الوصول الى هذه المرحلة من الصراع بين رقمنة الثقافة وشموخ الذوات إلى الإفراط في التعامل غير الواعي أو غير المُرَشَّدِ مع هذا النمط المثاقفي المرقمن من ناحية أو التفريط في مقابل ذلك الإفراط في بعض قيم الهوية وشموخ الذات من ناحية أخرى.
كما قد يعود هذا الصراع أيضا في ظني إلى الاستسلام لهذا النمط من الثقافة والتسليم بمغريات جاذبيتها المستقطبة المؤسسية الموجهة التكوين والمقصد في أغلب الأحايين.
ونتيجة لذلك الاستسلام والتسليم يستحوذ على الإنسان المرقمن ثقافيا شعور يؤرقه ويقض مضجعه وخاصة عندما تصبح الثقافة التي يتعامل معها مثاقفة تُسيِّرُه قسراً كيفما تشاء. وسأتابع هذا النقاش في الجزء الثاني من المقال الذي سأستعرض فيه بإذن الله سلبيات وإيجابيات رقمنة الثقافة وحوسبة المثاقفة وبعض المقترحات ذات العلاقة.