رمضان جريدي العنزي
في حياة الإنسان ثمة محطات لا تُنسى، ولحظات تظل عالقة في الذاكرة مهما امتد الزمن، من بين تلك المحطات، يبرز الرحيل بوصفه أكثرها وجعًا وألمًا، ولا سيما حين يكون رحيلًا مرًا، ذلك النوع الذي لا يترك مجالًا للفهم أو الإدراك أو التمهل، بل يقتلع منا شيئًا عميقًا ويغادر بصمت، الرحيل المر جرح ينبض في أعماق الروح، يترك خلفه صدى لا يهدأ، إنه تلك اللحظة التي تتوقف فيها عقارب الزمن، وتتجمد المشاعر بين التصديق واللاتصديق، شعور يعتصر القلب، ويحبس الأنفاس، ويجعل المكان ضيقًا.
الرحيل المر لا يقاس بغياب الأشخاص المقربين، بل بالأثر الذي يخلفه هذا الغياب في أعماق النفس، هو أشبه بثقب داخلي، لا يرى لكنه يحدث خللًا في توازن الروح، ويعيد تشكيلها بشكل مغاير وعجيب، الرحيل قاسٍ في كل الأحيان، والوداع الأبدي أكثر قسوة ومرارة، الوجوه الراحلة لا تختفي من الذاكرة، والأصوات تظل تتردد في مساحات الذهن، وكأن الفقد لا يكتمل أبدًا، نعيش داخل المفارقة، نشتاق، ونعلم في قرارة أنفسنا أن العودة مستحيلة، ومع ذلك ننتظر بلا وعي، الرحيل المر يحدث تحولًا جوهريًا في النفس، لا يتركنا كما كنا، نصبح أكثر وجعًا، وأكثر ألمًا بقيمة اللحظة التي لم نغتنمها حين الوجود، وأكثر إدراكًا لهشاشة كل ما نظنه ثابتًا، الحزن يصبح جزءًا من اللغة الداخلية، لكنه لا يكون دائمًا علامة ضعف، بل في أحيان كثيرة، يصبح مصدرًا للقوة والنضج، هل يمكن تجاوز الرحيل المر؟ التجاوز لا يعني النسيان، بل يعني إيجاد صيغة للعيش مع الغياب دون أن يستهلكنا، لا يمكن للزمن أن يشفي كل شيء، لكنه يمنحنا الأدوات اللازمة لنرمم ذواتنا، بمرور الوقت، ندرك أن الحب لا ينتهي برحيل من نحب، بل يستمر بصور أخرى: في الدعاء، في الوفاء، في حفظ الذكرى، في الفراق في لون الكفن، وحفرة الدفن، ووجوه المشيعين، وتوافد المعزين.
خاتمة:
الرحيل المر تجربة إنسانية عميقة، لا ينجو منها أحد، لكنها في الوقت ذاته تشكل جزءًا من وعينا بالزمن، بالعلاقات، وبقيمة اللحظات التي نظنها عابرة، هو جرح لا يندمل بالكلية، لكنه يعلمنا أن الحياة تمضي، وأننا نستطيع الاستمرار، لا لأننا تجاوزنا، بل لأننا تعلمنا أن نحمل الفقد بأقل قدر من الحزن والانكسار.