د. سطام بن عبدالله آل سعد
قد تبدو فكرةُ تحويل المدرسة إلى موردٍ اقتصادي غريبةً في البداية، لكنها في جوهرها تحوّلٌ منطقي في زمنٍ أصبحت فيه الاستدامةُ معيارَ البقاء. فالعصر لم يعد يسمح للمؤسسات التعليمية أن تبقى مستهلكةً للموارد دون مردود، بل عليها أن تكون شريكًا فاعلًا في التنمية. ومن هنا تنطلق فكرة إعادة صناعة المكان لتجعل من مدارسنا فضاءاتٍ منتجةً تمكّن التعليم من تمويل ذاته وخدمة مجتمعه المحلي. فالمكان الذي يستهلك ميزانيات ضخمة يمكن أن يتحول إلى نموذجٍ لاستثمارٍ ذكيٍ، يُعيد تعريف المدرسة ككيانٍ مستدامٍ يُنتج ويستثمر ويُسهم في تنمية بيئته.
المباني والمرافق الداخلية والخارجية للمدارس الحكومية تُعد أصولًا نائمة، كلفت الدولة مليارات الريالات على مدى السنوات الماضية دون أن تُستثمر بالشكل الأمثل. فهي تُشغَل في الغالب لست ساعاتٍ فقط يوميًا، بينما يبقى الجزء الأطول من اليوم - وهو وقت الذروة الاقتصادية والاجتماعية - معطّلًا تمامًا.
جوهر هذه الفكرة يقوم على إنشاء أنشطة اقتصادية مصاحبة للمرافق المدرسية، مثل المحلات الصغيرة والدكاكين والقرطاسيات وغيرها، تُدار بالشراكة مع القطاع الخاص والمستثمرين المحليين، ويُوجَّه ريعها مباشرة لتغطية احتياجات المدرسة. هذا النموذج يحقق مبدأ التمويل الذاتي ويعزز ثقافة المشاركة المجتمعية في دعم التعليم، ويحوّل المدرسة من مرفق استهلاكي إلى مؤسسة قادرة على تمويل صيانتها وتطوير بيئتها التعليمية دون إثقال كاهل ميزانية وزارة التعليم.
الأثر الاقتصادي لهذا النموذج لا يقتصر على تحقيق التمويل الذاتي، إنما يمتد ليؤسس» ثقافة استدامة « ذات بُعدٍ اقتصاديٍ داخل المدرسة، تُعيد تشكيل علاقة التعليم بالمجتمع. فحين تتحول المدرسة إلى مركزٍ للنشاط الاقتصادي في الحي، تتنامى حولها فرص العمل، وتُحفَّز أصحاب المشروعات الصغيرة، ويتحوّل التعليم من خدمةٍ حكومية إلى حركةٍ مجتمعيةٍ تشاركيةٍ تعزز التكافل والتنمية المحلية.
أما من الناحية التنموية، فإن إعادة صناعة المكان تُعيد توظيف المرافق المعطلة داخل المدارس - كالمسارح والساحات والقاعات - لتصبح فضاءات منتجة ومعرفية، تحتضن معارض فنية، وبازارات محلية، ومكتبات، ومقاهي ثقافية، وبهذا تتحول المدرسة إلى فضاء مفتوح يربط بين التعليم والاقتصاد والإبداع في إطار واحد يخدم الطالب والمجتمع.
هذا النموذج لا يحقق فقط عوائد مالية، بل يخلق أثرًا معرفيًا عميقًا، إذ يُشرك الطلاب في إدارة الأنشطة الاقتصادية، فيتعلمون من خلالها مهارات ريادة الأعمال والمسؤولية الاجتماعية والعمل الجماعي، مما يُعدّهم ليكونوا عناصر فاعلة في الاقتصاد الوطني. فالمدرسة هنا تصبح بيئة تعلم تطبيقي تُغرس فيها قيم الإنتاج والانضباط والاستدامة.
ويمتد المفهوم كذلك إلى البعد الصحي والغذائي، إذ يمكن للمقاصف والأسر المنتجة تقديم وجبات صحية متوازنة تُباع بأسعار رمزية ضمن منظومة اقتصادية تضمن الجودة وتحقق دخلًا إضافيًا للمدرسة، ما يعزز الوعي الغذائي لدى الطلاب ويخلق نموذجًا متكاملًا للصحة والتنمية داخل البيئة التعليمية.
إعادة صناعة المكان في المدارس هي فكرة لتعريف دور المدرسة كمورد اقتصادي ومعرفي يخدم المجتمع. فائدتها هي التحول من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن الاعتماد إلى التمكين، لتصبح المدرسة نموذجًا تطبيقيًا للتنمية المستدامة يسهم بفاعلية في تحقيق أهداف الاقتصاد الوطني.