هدى بنت فهد المعجل
الجيل المضطرب: إنسان الشاشة بين الحضور والغياب
يُطلق وصف “الجيل المضطرب” على جيل “زد” الذي وُلد في قلب الثورة الرقمية، وتفتّح وعيه وسط ضجيج الشاشات ووميض الإشعارات. لم يعرف هذا الجيل عالمًا بلا إنترنت، ولم يختبر العزلة كخلوة، بل كخطر يهدده بفقدان الاتصال.
في الظاهر يعيش هذا الجيل انفتاحًا لا حدود له، لكنه في العمق يعيش انغلاقًا على ذاته، كأن التكنولوجيا التي منحته العالم قد سرقت منه القدرة على العيش فيه.
تشكّلت هوية الجيل الرقمي على أنقاض البطء الإنساني؛ فكل شيء صار فوريًّا: المشاعر، الأخبار، العلاقات، وحتى الألم. هذه السرعة المفرطة جعلت الوعي الإنساني هشًّا، متقلّبًا، لا يجد ما يثبته أو يرسّخه. ومع كل نقرة على الشاشة، يزداد الانفصال بين الإنسان ونفسه، حتى أصبح يطلب التقدير من جمهور مجهول، وينسى أن ينصت إلى صوته الداخلي.
الاضطراب الذي يعيشه هذا الجيل ليس خللاً فرديًّا بقدر ما هو أزمة حضارية، إذ أُعيد تشكيل الدماغ والعاطفة وطريقة التواصل لتتلاءم مع اقتصاد الانتباه.
فالشركات التقنية الكبرى لم تكتفِ ببيع الأجهزة، بل صمّمت أنظمة تُبقي المستخدم أسيرًا للتفاعل، تُطعمه جرعات صغيرة من المتعة المؤقتة ليظلّ في دائرة الإدمان. والنتيجة: ارتفاع معدلات القلق والاكتئاب وتشتت الانتباه، وكأن الإنسان فقد قدرته على السكون والتأمل.
لكن وسط هذا الضجيج، هناك بريق مقاومة: وعي متزايد بمحاولة استعادة الذات. فجيل “زد” رغم اضطرابه، يمتلك حسًّا نقديًّا عميقًا، ويميل إلى البحث عن المعنى بعد أن سئم الواجهات. هو جيلٌ يبحث عن صدقٍ يعيد إليه شعوره بالحياة، لا عن كمالٍ مزيف تفرضه الخوارزميات.
إن شفاء الجيل المضطرب لا يكون بالهروب من التكنولوجيا، بل بإعادة التوازن بين العالم الرقمي والعالم الواقعي؛ أن يتعلّم كيف يبطئ، كيف ينصت، وكيف يختبر الحياة دون توثيقها. ففي زمن تُقاس فيه القيمة بعدد المشاهدات، تصبح العودة إلى البساطة عملاً ثوريًا.
إن هذا الجيل، بكل ما يحمله من قلقٍ وتناقض، هو مرآة عصره. اضطرابه ليس ضعفًا بل علامة على حساسيته العالية تجاه التغير السريع للعالم. وربما يكون وعيه باضطرابه هو أول خطوة نحو شفاءٍ جمعي يعيد للإنسان معناه في زمنٍ رقميٍّ يُعيد صياغة الوجود نفسه.