عبدالوهاب الفايز
في العواصم الرأسمالية الكبرى التي أرست مفهوم حرية الأسواق مثل لندن وباريس ونيويورك وطوكيو، ينتهي النشاط التجاري اليومي مع غروب الشمس تقريبًا؛ فتتحول الأحياء السكنية بعد الثامنة مساءً إلى فضاءات هادئة، تغلق فيها المتاجر أبوابها وتخلو الشوارع من الحركة، حتى في مراكز المدن التي تستقطب السياح، حيث يُقتصر النشاط الليلي على مناطق محددة وتكون تحت رقابة أمنية صارمة. وغالبًا ما يكون سكان تلك الأحياء هم أنفسهم العاملون في النشاط التجاري، أي أنهم المستفيدون المباشرون من هذا النظام المنضبط.
لنجاح متطلبات رؤية 2030، خصوصًا في محور جودة الحياة، نحتاج إلى إعادة هيكلة الزمن في مدننا لتحقيق تنمية متوازنة تجمع بين الاقتصاد، والصحة، والأمن، والإنتاجية. وفي هذا المقال نواصل مناقشة الإشكالية التي طرحناها الأسبوع الماضي، ولكن من منظور أوسع، يركز على فكرة محورية: أن تنظيم ساعات العمل في النشاط التجاري ضرورة لاستقرار الأسرة، وأساس لمعالجة تراجع النمو السكاني.
عندما بدأنا رحلاتنا السياحية في العواصم العالمية اكتشفنا أمرًا لافتًا: المقاهي والمطاعم ومحلات الملابس والأجهزة المنزلية والحلاقة وغيرها تُغلق غالبا عند السادسة مساءً، ويعمل فيها أصحابها المواطنون بأنفسهم، بمساعدة أبنائهم أو أقاربهم أو موظفين بدوام جزئي.
وهذا المشهد يعيد إلى الذاكرة حال التجارة في بلادنا قبل أربعة عقود، حين كان السعوديون يملكون محلاتهم ويعملون فيها بأنفسهم، وكانت تلك الدكاكين المتواضعة مصدر رزق لعائلات كثيرة، وبعض العصاميين طوروا تجارتهم الصغيرة لتصبح مجموعات تجارية عملاقة. كان كل صاحب محل يغلق متجره عند المغرب، ثم يعود إلى بيته لمائدة العشاء والجلسة العائلية الحميمة.
إن إغلاق محلات التجزئة الصغيرة ليس استثناءً، بل قاعدة في الدول التي تبنت الرأسمالية كأيديولوجيا اقتصادية وتؤمن بحرية الأسواق. فلماذا نختلف نحن جذريًا في ممارساتنا التجارية، رغم أننا نبحث دائمًا عن أفضل الممارسات العالمية؟ لماذا تظل أسواقنا حية بالأنوار والحركة حتى الثانية أو الثالثة فجرًا؟ هذا التناقض لا يعبّر عن اختلاف ثقافي فقط، بل عن فجوة في التشريع والتنظيم وفهم أولويات الحياة الاجتماعية.
في السعودية اليوم، أصبح النقاش حول تنظيم ساعات النشاط التجاري ضرورة استراتيجية، خصوصًا مع تزايد المخاوف من تراجع النمو السكاني الناتج عن ضعف دور الأسرة واستمرار الضغوط المعيشية، وتوسع مغريات الترفيه الليلية. لقد أصبح حالنا قريبًا من المجتمعات التي قدّمت متطلبات النمو الاقتصادي على حساب التوازن الاجتماعي والإنساني، حتى صارت مشكلة تراجع السكان من أبرز مهدداتها الوجودية.
الأمر المؤسف أن النقاش حول ضرورة إغلاق المحلات عند السادسة مساءً ظل محدودًا وخجولًا - بالذات مع الأسف بين النخب - دون إدراك أثره المباشر على نمو ظواهر سلبية مثل سهر الأطفال والطلاب حتى منتصف الليل، واستنزاف الموارد الأمنية والخدمية، وانتشار التستر التجاري وتكدس العمالة الوافدة غير الماهرة. هذه المظاهر تجعل من تنظيم ساعات النشاط التجاري (مشروعًا وطنيًا وجوديًا)، لا مجرد قرار إداري.
السهر طوال الأسبوع أصبح معاناة اجتماعية للأسرة السعودية عززها وشجعها تمدد ساعات العمل والنشاط التجاري، رغم الأخطار الصحية الجسيمة. تشير دراسات منظمة الصحة العالمية (2023) إلى أن نقص النوم المزمن يرفع خطر السمنة بنسبة 55%، والاكتئاب بنسبة 40%، وضعف المناعة بنسبة 30%.
وفي السعودية، أظهرت دراسة وطنية لجامعة الملك سعود (2024) أن 72% من الأطفال دون 12 عامًا ينامون أقل من سبع ساعات يوميًا بسبب السهر العائلي في الأسواق، وأن 65% من العاملين في التجزئة يعانون من اضطرابات النوم مما يقلل إنتاجيتهم بنسبة 25%. هذه الأرقام - وغيرها - كافية لتبرير إغلاق المتاجر الصغيرة عند السادسة مساءً حفاظًا على الصحة والإنتاجية.
إن هذا الإجراء لن يعزز النمو الجسدي والعقلي للأطفال، ويرفع إنتاجية الشباب، ويدعم الاستقرار الأسري فقط. بل سوف يساهم في توطين قطاع التجزئة (مصدر الوظائف وريادة الأعمال).
من أبرز فوائد تقليص الدوام الفعلي للنشاط التجاري إلى ثماني ساعات أنه يجعل (قطاع التجزئة) أكثر جاذبية لرواد الأعمال السعوديين. ساعات العمل الطويلة أخرجت السعوديين من القطاع بعد تمدد ساعات العمل. والأجهزة التشريعية والتنظيمية في حالة عدم إدراك لهذه الحقيقة! بالنسبة للنساء، ساعات العمل الممتدة كانت أكبر عائق أمام توطين عمل المرأة في هذا القطاع. قطاع التجزئة يُشكل 13.2% من الناتج المحلي غير النفطي (الهيئة العامة للإحصاء، 2025) لكنه يعاني من اعتماد 82% على العمالة الوافدة وساعات عمل 14 ساعة يوميًا مما يؤدي إلى إرهاق عام وانخفاض الإنتاجية.
بيانات وزارة التجارة تكشف أيضا أن التجارة الإلكترونية نمت 340% منذ 2020 والطلبات الليلية بعد 10 مساءً لا تتجاوز 9% من الإجمالي، مما يعني أن 91% من النشاط يمكن إنجازه قبل 9 مساءً.
والتنظيم المرن مثلا: (6 مساءً للمتاجر الصغيرة، 10 ليلاً للمولات) المتوقع ان يرفع السعودة من 26% إلى 48% خلال 3 سنوات (توقعات وزارة الموارد البشرية)، ويخلق 180 ألف وظيفة رقمية في التوصيل والتحليل، ويقلل التستر التجاري بنسبة 60%، كما سيجعل القطاع أكثر جاذبية للنساء، إذ أظهرت دراسة وزارة الموارد البشرية أن 78% من النساء السعوديات يرفضن العمل في التجزئة بسبب «الساعات الطويلة».
المؤسف أن الساعات الطويلة مازالت تدعم استمرار ظاهرة التستر التجاري تحت ذرائع فنية وتنظيمية، بعد أن فُضّلت الاعتبارات التجارية (أي مصالح قطاع الأعمال) على الاحتياجات الاجتماعية والأمنية.
أما الأضرار المباشرة وغير المباشرة للأسواق المفتوحة حتى الفجر، فهي باهظة. حسب تقديرات هيئة الكهرباء (2024)، فإنها تستهلك كهرباء إضافية بقيمة 3.2 مليار ريال سنويًا، وتتطلب دوريات أمنية ليلية تمثل 35% من إجمالي الدوريات، إضافة إلى تكاليف نظافة ليلية تتجاوز 2 مليار ريال.
تنظيم الإغلاق يحول هذا الاستنزاف إلى استثمار عبر توجيه الموارد نحو مكافحة الجرائم الإلكترونية والمخدرات، وتقليل استهلاك الطاقة بنسبة 12%.
رؤية 2030 شجعت على المولات الكبرى كبديل عن الأسواق المبعثرة، فالمولات توفر رقابة مركزية وأمن على مدار الساعة، وبيئة عائلية مقابل فوضى ومخاطر ليلية في الأسواق التقليدية.
لذا، فالحل الاستراتيجي لإغلاق المتاجر الصغيرة عند 6 مساءً والسماح للمولات بالعمل حتى 10 ليلاً يحول النشاط إلى فضاءات منظمة ويعزز السياحة الداخلية والإنفاق المنظم، وتقرير وزارة السياحة (2025) يتوقع زيادة الإنفاق في المولات بنسبة 22% مع هذا التنظيم.
ومن الزاوية الصحية، تمدد ساعات العمل ساهم في تأخير وجبة العشاء، وهذا يمثل خطرًا إضافيًا. فقد أثبتت دراسات مخبرية أن تناول العشاء في العاشرة مساءً بدلاً من السادسة يؤدي إلى: ارتفاع سكر الدم بعد الوجبة، تأخر ذروة الدهون الثلاثية، وضعف أكسدة الدهون. كما تربط دراسات معهد الأورام الأمريكي (AICR) بين الارتجاع المزمن وسرطان المريء بسبب الحموضة المتكررة التي تؤذي بطانة المريء. والخبراء باستمرار يحذرون من تأخير العشاء حيث يزيد احتمالات السمنة ومقاومة الإنسولين مع مرور الوقت.
ختامًا، فإن تنظيم ساعات النشاط التجاري ليس تراجعًا عن الانفتاح الاقتصادي ولا تضييقًا على حرية التجارة، بل هو إصلاح اجتماعي وصحي ويدعم متطلبات الأمن الوطني، ويعالج أزمة تأخر النوم، ويدعم السعودة والتجارة الرقمية، ويعيد التوازن بين الإنسان والاقتصاد.
إنه مشروع حضري لبناء مدن إنسانية أكثر هدوءًا وصحة وإنتاجية، ويعيد للأسرة السعودية دفء مائدتها بعد صلاة المغرب.